وذكر الأخ أحمد العرفج آراء بعض الكتّاب الحريصين على الحذف، وأورد جزءاً من رأي عن الحذف (هكذا حذف من غير تحرز)، وقد أخذ رأيي في عملية الحذف، ويبدو أنني ممن عطل عليه فكرة عن الحذف، إذ أجد أنني ميالاً لقاعدة علماء الحديث الذين اقتدوا بمقولة ابن معين: «إذا كتبت فقمش، وإذا حدثت ففتش»، وهو القول الصائب الذي أتبعه أثناء الكتابة، معللاً ذلك بأن الكتابة هي كتابة نفسي، وحين لا تكون هي الذات، أعمد للحذف قبل أن تحتلني الحروف والكلمات، إلا أنه ليس حذفاً أو إزالة نهائية.. أحياناً يكون الحذف نوعاً من أنواع المحو، فما كُتب جزء منك، إلا أن به دخناً؛ ولذا لدي أنهر عديدة أضع بها ما قمت بحذفه، علني في زيارة أخرى أجد فيما حذفته شيئاً مني، فأقوم بعملية تدويره في كتابة أخرى.

وقد اكتشفت من خلال هذه الحالة، بأن للنفس ترددات، تحضر حين تتيبس أوردة الكتابة، فتحييك مرة أخرى.

وأي جملة تخرج منك لا تدعها تموت، أنعشها، وإن لم تسايرك في عمل روائي، قم بتجميدها في درجات التجمد العالية، وفي زمن لاحق أقوم بإحيائها، فليس هناك جملة ميتة، وإنما لها أزمان تحيا فيها.

الحذف حالة من حالات التخلي عن ذاتك، فأقوم بحذفها في عمل، وإحيائها في عمل آخر.

قضية الحذف الكلي خيانة للنفَس الأول الذي منحك الشهيق والزفير.. هناك مخاتلة كتابية، تعلمت كيف أفوت على الزمن سرقتي، أوهمه بأني سأحذف، لكنني لا أفعل ذلك، أحذفها من رواية، وأحيي ما حذفت ليكون جذراً في رواية أخري.

أنا لا أخون نفسي التي تمنحني جذوة ذاتها عندما أشرع في الكتابة، فهي تمنحني كلمات، وصوراً، وأساليب، ومدخلات، ومخارج كتابية، فإن كان ما كُتب ذا إشكالية أو معضلة في العمل الروائي المنشغل بكتابته، أعمد إلى تنحية ما وددت حذفه مؤقتاً، وأعود إليه في عمل آخر.

النفس تجول في كل الأزمنة، فما تمنحك من مصل أثناء الكتابة، فالمحذوف يأتي زمنه، فربما وقفت أو نضبت في زمن ما، فسوف تجد معيناً في زمن آخر من خلال الحذف السابق.

فأنا أضع كل ما أكتب في جداول، أو أنهر موازية لكتابتي، أعود إليها لإحيائها في طور آخر.

ليس هناك ميت، بل كل شيء حي في زمن، ومتجمد في زمن آخر.

وليس لدي مكان للموت، بل حياة تتوالد من الهياكل الميتة، أو المتجمدة.