بعد إجراء انتخابات الرئاسة الأمريكية، وإعلان فوز المرشح الجمهورى دونالد ترامب على المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، نائبة الرئيس الأمريكى الحالى جو بايدن، الذى لم يتبق له سوى نحو ٤٠ يومًا فى ولايته، قبل تنصيب ترامب فى ولايته الثانية، استبقت إدارة بايدن، المنتمية للحزب الديمقراطى، الأحداث، بفرض رؤيتها على العالم وتنفيذ خطتها القاضية بنشر الفوضى عالميًا، وتفعيل استراتيجية «الاستنزاف للجميع»، لقطع الطريق أمام الرئيس المنتخب، الذى وعد، خلال فترة الدعاية الانتخابية، بإنهاء الحروب والنزاعات فى وقت قياسى، وبمجرد اتصال هاتفى.
ويبرز بشكل جلى من تحركات الإدارة الأمريكية «الديمقراطية» أن الاستراتيجية تهدف إلى وضع ترامب ما بين المطرقة والسندان، بفتح جبهات متعددة فى وقت واحد وبشكل متزامن؛ ليصعب عليه التعامل معها بطريقته وأسلوبه، الذى لا يريد من خلاله التورط عسكريًا إلا بأقل قدر ممكن، مع إجبار على مواصلة تنفيذ مخططاتهم مرغمًا، حتى لا تفقد الولايات المتحدة قوتها ونفوذها حول العالم.
ومن بين أحداث متعددة داخلية وخارجية، برز حدثان حملا أهمية خاصة للعالم، أولهما، هو المتعلق بقرار إدارة بايدن السماح لأوكرانيا باستخدام الصواريخ بعيدة المدى فى حربها مع روسيا، والثانى هو سقوط العاصمة السورية دمشق فى أيدى فصائل المعارضة المسلحة، وانتهاء حكم أسرة الأسد ونظام «البعث» فى سوريا، وهما حدثان رسما واقعًا عالميًا جديدًا يستحق تسليط الضوء عليه فى السطور الآتية، بدءًا من الحدث الأقرب من حيث التوقيت والجغرافيا والحدث السورى، الذى يوضح حقيقة ما أراد الديمقراطيون تركه للعالم.
إسقاط دمشق وتمكين الفوضى فى «دول النقمة» لخلق واقع جديد بالشرق الأوسط
بعد قرابة عام على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، عرض بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلى، فى نهاية شهر سبتمبر الماضى، صورتين لمنطقة الشرق الأوسط، خلال كلمة له فى الأمم المتحدة، أسماهما بـ«خرائط النعمة والنقمة»، وظللت «خريطة النقمة» دولًا مثل سوريا والعراق وإيران ولبنان واليمن باللون الأسود، فى إشارة أو تلميح إلى أنه ينتظر هذه الدول مصير أسود؛ باعتبارها دولًا تعادى الحكومة اليمينية المتطرفة فى دولة الاحتلال.
وبعد نحو شهرين من نشر «خريطة النقمة»، أوقفت إسرائيل حربها على لبنان إثر الاتفاق على وقف إطلاق النار مع «حزب الله»، بعد نحو شهرين من حرب هى الأعنف بين الطرفين منذ عام ٢٠٠٦، وبعد أن أشارت نتائجها إلى أن المواجهات المتبادلة والغارات الإسرائيلية العنيفة قد استنزفت الكثير من عدة وعتاد الحزب، بالإضافة إلى القضاء على عدد كبير من قياداته، بما فيهم أمينه العام حسن نصرالله، الذى تم اغتياله فى ضربة جوية مركزة وموسعة، ومن بعده خليفته هاشم صفى الدين.
ومع وقف إطلاق النار مع لبنان، هدد نتنياهو، الرئيس السورى بشار الأسد وقتها، وحذره من مغبة تمرير السلاح الآتى من إيران لـ«حزب الله» عبر الأراضى السورية، معتبرًا أن الأسد «يلعب بالنار».
بعدها، بدأت قوات المعارضة المسلحة تحركها من إدلب فى الشمال إلى حلب، لمهاجمة قوات الجيش السورى، بعد كسر اتفاقات «مسار أستانة» ومبادرة خفض التصعيد، التى شكلت المشهد لعدة سنوات، ليبدأ مشهد النهاية، الذى شهده العالم فجر يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢٤.
وخلال أقل من ١١ يومًا، تمكنت فصائل المعارضة من الاستيلاء على المدن السورية الكبرى والاستراتيجية والمواقع والقواعد والمطارات العسكرية التابعة للجيش السورى، من حلب إلى حماة ثم إلى حمص، لتصل فى فجر الأحد ٨ ديسمبر ٢٠٢٤ إلى مشارف العاصمة دمشق، وتبدأ فى دخولها دون أى مقاومة، وتسيطر على مرافقها الحيوية ومؤسساتها، وسط اختفاء تام للجيش السورى، لتعلن الفضائيات الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعى سقوط دمشق وانتهاء حكم عائلة الأسد.
وبدا من الواضح أن دعم فصائل المعارضة المسلحة فى سوريا لم يتم خلال يوم وليلة، بل استغرق وقتًا طويلًا، خاصة أن المقاطع المصورة التى انتشرت، خلال الأيام الماضية، والتى نشرها مؤيدون لهذه الفصائل، أشارت بوضوح إلى تدريب كبير ومتواصل على إطلاق المسيرات والتحكم بها لاستهداف مناطق عسكرية، وبعضها حمل تواريخ تشير إلى شهر أبريل الماضى.
وأوضحت الفيديوهات أن التدريب تم على يد مجموعات أوكرانية، ما يعد شاهدًا إضافيًا على أن ساكنى البيت الأبيض عملوا بشدة على تدريب وتأهيل المجموعات السورية المسلحة، خاصة أن سلطات كييف لم تكن لتأخذ مثل هذه الخطوة دون علم وموافقة الجانب الأمريكى، وهو الداعم الرئيسى لها فى حربها مع روسيا منذ عام ٢٠٢٢.
وخلال الأسبوعين الأخيرين، ظهر تجمع كبير ومثير للاهتمام من الفصائل المسلحة فى سوريا، يضم فصائل من المعارضة السورية والعديد من التنظيمات ذات التوجهات المختلفة، ما يعكس تطورًا لافتًا فى استراتيجية المعارضة السورية المسلحة المدعومة دوليًا.
ولعب «أبو محمد الجولانى»، زعيم «هيئة تحرير الشام» أو تنظيم «جبهة النصرة» سابقًا، دورًا محوريًا فى استقطاب الأنظار إليه، بعد أن ظهر تحت اسم «أحمد الشرع»، وتم دعمه إعلاميًا بشكل غير مسبوق، بما فى ذلك ظهوره على شبكة «سى إن إن» الأمريكية فى مقابلة مفاجئة تهدف إلى تلميع صورته كزعيم معارض وليس إرهابيًا، كما ظل يصنف لسنوات.
وبعد أن كانت أمريكا قد رصدت ١٠ ملايين دولار لمن يدلى بمعلومات عنه فى ٢٠١٧، أعلنت هيئة تحرير الشام عن تخصيص نفس الرقم لمن يدلى بمعلومات تساعد فى القبض على بشار الأسد، فى خطوة تثير السخرية من تغير الأوضاع بشكل تام، وتشير إلى الدعم الغربى الواضح لصياغة صورة ذهنية أخرى للتنظيمات السورية المسلحة أمام العالم، باعتبارها جزءًا من «ثورة شعبية» بدلًا من كونها جزءًا من تنظيمات متشددة.
منح إسرائيل الهيمنة بتوسيع أراضيها على حساب سوريا ولبنان.. وقطع أذرع إيران الطويلة
استغلت إسرائيل الفراغ الأمنى والسياسى الناتج عن انهيار الجيش السورى وسيطرة المعارضة على دمشق لإعادة تموضعها فى مواقع استراتيجية داخل الأراضى السورية.
ومن الواضح من المواقع التى اختارتها إسرائيل أنها لا تهدف فقط إلى تأمين حدودها الشمالية، بل أن تجعل نفسها فى وضع يمكنها من فرض السيطرة على ثلاث دول رئيسية فى المنطقة، هى سوريا، ولبنان، والأردن.
توسع إسرائيل لم يقتصر على النقاط العسكرية؛ فقد أظهرت المعلومات المتواترة نقل معدات وتقنيات متقدمة إلى المناطق السورية المحتلة، ما يعزز من قدرة إسرائيل على رصد التحركات العسكرية لأى قوة فى المنطقة، التى تعد بمثابة نقطة التقاء لحدود الدول الثلاث. ويعنى هذا أن أى تحرك عسكرى أو محاولات لنقل أسلحة أو أفراد، خاصة عبر الطرق الطبيعية سيكون تحت سمع وبصر الجيش الإسرائيلى، الذى قام بقصف وتدمير كثير من مواقع وإمكانات ومقدرات الجيش السورى بعد الإعلان عن سقوط نظام الأسد، وشملت ضرباته الجوية مطارات عسكرية ومراكز بحثية ومعامل لإنتاج أسلحة كيميائية ومصانع ومنشآت لإنتاج وتصنيع صواريخ.
ومع انهيار النظام السورى وسيطرة الفصائل المسلحة، أصبحت إيران تواجه تحديات كبيرة فى الحفاظ على خطوط الإمداد لقواتها وأذرعها المسلحة، مثل «حزب الله» فى لبنان، وحتى الفصائل العراقية التى حاولت تقديم الدعم للنظام السورى فى ساعاته الأخيرة.
واستغلت إسرائيل هذا الوضع لشن هجمات دقيقة على طرق الإمداد والمخازن الحيوية فى سوريا، وهو ما أسفر عن تدمير العديد من المنشآت العسكرية والإمكانات التى كان من الممكن أن يتم استغلالها مستقبلًا، وهو ما حقق هدف إضعاف إيران، وتحقيق غاية استراتيجية إسرائيلية وأمريكية مزدوجة، من خلال تقليص تهديد «حزب الله» من الشمال، ومنع تحول سوريا إلى مركز عمليات لإيران ضد إسرائيل.
ويعنى كل هذا أن الأحداث الأخيرة فى سوريا أعادت صياغة المعادلات الإقليمية والدولية، بعد سقوط دمشق فى أيدى الفصائل، والتوسع الإسرائيلى على حساب الأراضى السورية واللبنانية، وضعف النفوذ الإيرانى، فيما تشير التحركات التركية والكردية على الأرض السورية إلى بداية مرحلة جديدة من الصراع الجيوسياسى.
إطالة الحرب الأوكرانية بضرب العمق الروسى لتوريط ترامب فى تركة ثقيلة سياسيًا وعسكريًا
على الجانب الآخر، وفى أوكرانيا، يمكن وصف ما حدث بعد فوز ترامب بأنه «تصعيد جديد ومحاولة إحياء حرب طويلة الأمد».. ويعد هذا العنوان العريض هو مفتاح فهم أسباب وطبيعة قرار إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن اتخاذ خطوة تصعيدية خطيرة، يوم ١٨ نوفمبر الماضى، بعد أن تجاوزت الحرب الروسية- الأوكرانية يومها الألف، وعبر السماح لأوكرانيا باستخدام صواريخ بعيدة المدى مثل «أتاكمز» و«هيمارس» لاستهداف العمق الروسى، وهو ما تلاه قرار مماثل من كل من بريطانيا وفرنسا، بهدف تجاوز الخطوط الحمراء الروسية، وقياس رد فعل موسكو إزاء هذا التصعيد.
والسبب المعلن لهذا القرار، بحسب ما قاله مسئولون أمريكيون، لم يتم الكشف عن أسمائهم لوسائل إعلام أمريكية، هو الرد على قرار روسيا بالسماح للجنود الكوريين الشماليين بالقتال فى أوكرانيا، وذلك بعد استغاثة سلطات كييف بالغرب، إثر الإعلان عن قتال ١٠٠ ألف من الجنود الكوريين الشماليين إلى جانب القوات الروسية.
ولكن، خلف سطور الادعاءات، ووراء الكواليس، تظهر أسباب وأهداف أخرى للقرار الأمريكى، الذى أثار تداعيات سياسية وعسكرية واسعة، بدءًا من تحديث بوتين عقيدته النووية، فى ١٩ نوفمبر الماضى، ووصولًا إلى ما وصفه العديد من المحللين والمراقبين بأنه تعمد لإحراج إدارة ترامب المقبلة وتعميق الانقسام الدولى، فى إشارة إلى أن قرار إدارة بايدن بالسماح لأوكرانيا باستهداف العمق الروسى يُعدُّ تطورًا نوعيًا فى الحرب المستمرة، ويعكس تحولًا استراتيجيًا فى الموقف الأمريكى تجاه روسيا، فى جزء من رؤية أوسع لتعزيز الموقف الأوكرانى، عسكريًا وسياسيًا.
ويرجح المحللون أن تلك القرارات من إدارة بايدن، والتى أتت قبل شهر ونصف فقط من رحيلها، تسعى لترك إرث وتركة ثقيلة سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا للرئيس المنتخب دونالد ترامب، عبر توريطه فى الصراع من خلال إذكاء حالة التصعيد العسكرى مع روسيا بصواريخ أمريكية بعيدة المدى، تهدف إلى إعادة إشعال الحرب بشكل جديد يضمن- ولو مرحليًا- تبنى رؤية الإدارة الديمقراطية فى مواجهة روسيا، بعد أن نجح بايدن طوال سنتين فى بناء تحالف قوى داخل حلف «الناتو» لدعم كييف.
ونظرًا لأن ترامب خلال فترة دعايته الانتخابية تعهد، بل وتفاخر، بقدرته على إنهاء الحرب بسرعة، فإن تصعيد بايدن قد يجعله يبدأ ولايته وسط صراع معقد ومتصاعد، من خلال محاولة عرقلة أو تعقيد وتصعيب شروط التفاوض، إذ سيجد ترامب نفسه أمام بوتين أكثر تصلبًا، خاصة بعد القرار الذى اعتبره الرئيس الروسى نوعًا من التدخل المباشر فى الحرب، وتم على إثره تعديل العقيدة النووية الروسية.
وتدرك إدارة بايدن أن إطالة أمد الحرب تعنى استنزاف روسيا اقتصاديًا وعسكريًا، ما يضعف قدرتها على التأثير فى النظام الدولى، لذا فإن استخدام صواريخ «أتاكمز» لضرب منشآت عسكرية ومراكز لوجستية فى العمق الروسى يهدف إلى تقويض قدرة موسكو على مواصلة الحرب، وذلك من خلال تقليص القدرات الروسية الهجومية باستهداف قواعد الإمداد والخطوط الخلفية، ما يقلل من قدرة الجيش الروسى على شن عمليات واسعة فى الأراضى الأوكرانية.
دفع روسيا لنقل الصراع إلى ما بعد أوكرانيا.. ومفاقمة الأزمة الاقتصادية العالمية
بعدما دفعه قرار الإدارة الأمريكية الحالية بمنح أوكرانيا قدرات هجومية طويلة المدى لذلك، وردًا على التطورات، أعلن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، فى ١٩ نوفمبر الجارى، عن تحديث العقيدة النووية، من خلال وثيقة سياسة الدولة الروسية فى مجال الردع النووى، بما يسمح باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية فى حالة تهديد الأمن القومى الروسى، ما يعكس رغبة موسكو فى تثبيت خطوطها الحمراء.
وكثفت روسيا من هجماتها على البنية التحتية الحيوية فى أوكرانيا، بضرب شبكة الطاقة وبعض المنشآت الاستراتيجية، لزيادة الضغط على كييف وحلفائها، وهو ما كشفه الرئيس الروسى، يوم ٢١ نوفمبر الماضى، بالحديث عن تنفيذ القوات الروسية اختبارًا ناجحًا لأحدث منظومة صواريخ فرط صوتية متوسطة المدى، والتى تحمل اسم «أوريشنيك».
وقال بوتين: «ردًا على استخدام الأسلحة الأمريكية والبريطانية، شنت القوات المسلحة الروسية ضربة على أحد مراكز المجمع الصناعى العسكرى فى أوكرانيا، وتم إجراء اختبار لأحدث أنظمة الصواريخ الروسية متوسطة المدى فى الظروف القتالية».
وفى ظل هذه الأوضاع يبرز أحد أكثر السيناريوهات خطورة، فى حال واصلت إدارة بايدن فى أيامها الأخيرة، ومعها بعض الدول الأوروبية كبريطانيا وفرنسا، التصعيد فى الحرب الأوكرانية، عبر السماح لكييف بالتمادى فى استهداف العمق الروسى أو إمدادها بأسلحة أكثر تطورًا، وهو أن تقرر روسيا الرد بضرب أهداف داخل أوروبا الشرقية أو دول البلطيق، ما يُدخل الحرب فى مرحلة جديدة أكثر خطورة، وينذر بتوسع الحرب لتكون شاملة مع الدول الغربية وأمريكا وحلف «الناتو».
كما أن منح أوكرانيا قدرات هجومية طويلة المدى قد يؤدى إلى سباق تسلح إقليمى جديد فى الدول المحيطة بأوكرانيا، خاصة فى شرق أوروبا مثل بولندا وسلوفاكيا والتشيك، التى لديها تخوفات من أن يصيبها بعض من تطورات مسار الحرب حاليًا، فى ظل الاتجاه للتصعيد.
ويحمل القرار الأمريكى بمنح أوكرانيا قدرات هجومية طويلة المدى مزيدًا من عوامل الاستنزاف للعالم، إذ قد يؤدى إلى مزيد من التقلبات فى أسواق الطاقة، خاصة مع استمرار روسيا فى استخدام الغاز والنفط كورقة ضغط على أوروبا، الأمر الذى قد يفاقم من الركود الاقتصادى العالمى.
0 تعليق