أما قطار الشرق و الذي تأسس سنة 1883 فقد ظل شاهداً على الحروب والهزائم والانتصارات في الواقع وفي الأعمال الفنية والأدبية، وشاهداً على تاريخ الصراعات الأوروبية الطبقية والدينية، كما ظل شاهدا على سطوة الثراء ومآسي الفقر والعوز، وقد أسهم بتآكل المسافات بين العواصم الأوروبية وغير الأوروبية، مثلما أنه أسهم بتآكل الأحقاد والمآسي والكراهية التاريخية بين شعوب أوروبا ونزاعاتها، وقد ظل هذا القطار يتمدد إلى ما وراء الجغرافيا الأوروبية وما بعدها، إلى أن طوته القطارات السريعة مطلع هذا القرن، لكنه بقي مُلهما للفنانين والأدباء والمبدعين بأعمالهم الفنية والأدبية، حتى قال الناقد السينمائي فيل دي سيملين إن «السينما لا شيء من دون القطارات».
لقد لعب القطار دوراً مهماً في السينما المصرية، فكان القطار حاضراً يجسّد مشاهد الحب والغرام والأسى والحزن والفراق والرحيل والغربة، كان القطار حاضراً درامياً وتراجيدياً صوتاً وصورةً، حبكةً وخلفيةً في العديد من الأفلام ومن أبرزها: «سيدة القطار»، و«قطار الليل»، و«القطار»، و«باب الحديد»، وغيرها الكثير.
يقول محمود درويش: «مرّ القطار سريعاً، كنت أنتظرُ، على الرصيف قطاراً، مرّ وانصرف المسافرون إلى أيامهم... وأنا ما زلت أنتظر.. هنا ولدتُ ولم أولد ويمشي حولي الشجرُ.. هنا وُجدتُ ولم أوجد، سأعثر في القطار على نفسي التي امتلأت بضفتين لنهر مات بينهما، كما يموت الفتى ليت الفتى حجر». ويقول معروف الرصاف: «قطار كصف الدّوح تسحبه سحباً.. فطوراً كعصف الريح تجري شديدةً وطوراً رخاءً كالنسيم إذا هبّا»، وفي السودان والمغرب العربي أدباء وشعراء تأثرت أعمالهم بالقطار وثقافة القطار.
قطار الرياض ليس استثناءً. فرغم أنه بدأ يوم أمس الأول بنقل الركاب، إلا أن الفرحة العارمة لا يخفيها سكان الرياض وزوارها الذين خاضوا التجربة في هذا المشروع العملاق وفي مدينة بحجم وموقع وأهمية مدينة الرياض المترامية الجغرافيا والكثيفة السكان. قطار الرياض هو الأحدث في مشروعات النقل في المملكة، فهناك قطار المشاعر الذي يربط عدداً من المدن في المشاعر المقدسة، وهناك قطار المنطقة الشرقية والذي يربط مدينة الرياض بالمنطقة الشرقية، وهناك قطار الشمال الممتد حتى منطقة الجوف شمالًا.
إن توقيت افتتاح قطار الرياض لا يقل أهمية عن أهمية قطار الرياض نفسه من حيث التعويل عليه مع بقية وسائل النقل العام لتخفيف الازدحام وفك الاختناقات المرورية، ومن حيث هو وسيلة نقل اقتصادية تلائم كافة فئات المجتمع، بجانب كونها وسيلة حضارية لها آدابها وبروتوكولها يستخدمها الغرباء والناس المحليون في أغلب المدن المهمة في العالم، وهو ما يسهم بوضع الرياض ضمن خريطة المدن التي تتوفر على كافة أنواع النقل العام، الذي هو من أهم مفاتيح السياح والزوار وأقصر الطرق لاستكشاف المكان والإنسان.
بجانب كل ما سبق من أهمية تنموية لقطار الرياض، فهل يكون قطار الرياض تجسيداً لمرحلة جديدة من الإبداع الفني والأدبي كسائر نظيراته في العالم؟ وهل تشهد المرحلة القادمة موجة من الإبداع الشعري والأدبي والفني المحلي لأدب القطار؟ وهل نحن على أبواب تغيير في السلوك العام كفتح شهية القراءة بين الركاب، وهل يرتفع مؤشر القراءة بين السعوديين حينئذ ممن يألفون ارتياد القطار ويعتادونه سلوكيا؟
وإلى أي مدى يمكن أن يغري التغيير المرتقب للسلوك العام المدارس المتنافسة والمؤسسات التربوية والتعليمية لإطلاق واستنطاق «درس التعبير» الذي بقي غريباً بين الطلبة والمعلمين وإدارات التعليم؟ وهل يمكن أن يستعيد قطار الرياض ومحطاته سلوك القراءة وفنون الكتابة ومهارات التعبير؟
0 تعليق