أحمد السيّد عطيف: مردود الثقافة على تُجارها

جريدة عكاظ 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
ينتمي الشاعر الكاتب أحمد السيّد عطيف إلى شريحة ثقافية تعتني أيما اعتناء بالإخلاص لمنتجها، والعناية بمفردات نصوصها، كما أنه شديد الحساسية تجاه كل من يستخفّ بعمله، فالإتقان شرط للقبول، وكما أدهش المتلقي بقصيدته المنتمية، أدار الرؤوس إلى أبحاثه في اللغة القرآنية، ولا يزال في خضم المعاتب، والمتاعب، يكافح في سبيل الدفاع عن فكرته التي يقبل نقضها بالعِلم والتنظير المؤسس، وفي هذه المساحة التي اختزلناها من وقت يخصص معظمه لحقله (الطور) الذي يأنس فيه بالشجر وصوت العصافير وخواص الرفاق، باح لنا ببعض ما يجول في صدره ودماغه؛ فإلى نص الحوار..

• أين تجد الثقافة اليوم؟ وما مردودها عليك؟

•• الأفعال الثقافية كثيرة ولا تحصى، لكن الثقافة نفسها دائماً تتشكل خلف ذلك مع الوقت. دخول الفلسفة ضمن أفعالنا الثقافية سيؤسس ضمن رؤية 2030 لشخصيتنا السعودية الثقافية، بما أن الفلسفة هي عمل العقل وترتيبه، وإلى أن يأتي جيلنا التالي فما قمنا ونقوم به هو محاولات مدرسية مشكورة لصنع ثقافة.

لا أعتقد أن أحداً يتوقع من الثقافة مردوداً شخصياً إلا تجار الثقافة، وهم موجودون في كل مرحلة ويشمّون، عن بُعد، فرص المردود ويسلكون الطرق إليه. ومن ناحية أخرى فالثقافة، بتعبير ما، هي الموقف والرأي، وطبيعي أن له ثمناً يدفعه أصحابه.

شخصياً، فيما عدا الرضا النسبي عن النفس لم يكن للثقافة عليّ أي مردود من أي نوع ولا أنتظر الإيجابي ولا أتوقع السلبي.

• مَنْ تسبب في تراجع الثقافة الصلبة؟

•• أشياء كثيرة تؤثر في هذه الاتجاه أو عكسه. سهولة التواصل وأدواته، تراجع دور المدرسة والجامعة والإعلام والصحافة الثقافية المقروءة والمسموعة، انشغال صفوف التأثير الأولى بالمشاهير وتجار الفرص، الوفرة المالية التي توفرها الجهات الرسمية دون وضع سقف جودة معقول، التركيز على النواحي الإشهارية أكثر من المضامين القوية، التركيز على شباب تجاربهم محدودة والاستغناء عن أسماء قادرة وأكثر عمقاً.. أعتقد أن هذه مرحلة «خمج» مؤقتة وسننضج مع الوقت.

• أليس الطبيعي أن ننتقل من الشعر للرواية مثلاً؟

•• الشعر والرواية والانتقال بينهما يحدث يومياً، وأظن أن مستقبلنا في الرواية سيكون أفضل بكثير، بل سنكون الأفضل عربياً، فالناس الآن يعقلنون وجدانهم أكثر، ويفهمون تفاصيل همومهم ويعبرون عنها بدقة، بمن فيهم الأطفال صارت تعبيراتهم دقيقة مقارنة بنا في أعمارهم. وهذا ميدان الرواية، أما الشعر فهو حالة صعبة ومعقدة ويحتاج أرواحاً أنقى وأعلى وظروفاً أقسى. أنا حاولت قبل سنوات أن أكتب رواية لكني فشلت!

• بمَ تعلل التهميش المقصود للأندية الأدبية وجمعية الثقافة ؟

•• ألاحظ هذا التهميش ولا أفهمه؛ فالأندية والجمعيات مؤسسات تبنتها الدولة وما زالت تدعمها، مع التهميش.

الأندية الأدبية تملك مقرّات وتتبع وزارة الثقافة ويمكن الاستفادة منها. أظنه لا يوجد رأي واحد في الوزارة تجاه الأندية، ولا يوجد أي تبرير معقول لهذا التهميش الذي يتردد ذكره. وإذا كانت الوزارة تريد الأدب من خلال جمعيات الأدب غير المناطقية فهذا لا يبرر الموقف من الأندية الأدبية بصفتها إحدى أدوات الوزارة. يمكن الرفع للمقام السامي باقتراح إنهاء عملها أو باقتراح الاستفادة منها وتغيير أنظمتها وطريقة إدارتها ودمجها ضمن الرؤية الثقافية للوزارة. بقاؤها هكذا هو مثار للتعجب والاستغراب.

• هل يقع في نفسك شيء من الشماتة بالنهايات؟

•• إذا كان الفرح شماتة فبالتأكيد أني شامت الآن في مآلات حزب البعث العربي الاشتراكي وسعيد جدّاً بما يحدث الآن.

أفرح بنهايته لأسباب كثيرة إنسانية وأخلاقية وثقافية، منها أن نغمة التعالي الثقافية علينا، كسعوديين، كانت تتغذى بشكل أو بآخر على ماكينة هذا الحزب، وتوابعها الشيوعية والتقدمية وأمثالها.

• لماذا غاب المشهد المألوف للثقافة فجأةً؟

•• لا أعرف ما تعنيه بمشهد مألوف للثقافة، إنما كل المشاهد في بلادنا تغيرت منذ أعوام.

ربما الجديد هو المظهر الإعلامي والاقتصادي وتعدد أطياف مفردات الثقافة. فهذا جيد وسنتعود عليه. فوجود الموسيقى والأزياء والطهي إلى جانب الشعر والفن هو أمر جديد على المشهد وعلينا. وإن كنت تقصد بروز أسماء للمشهد وخفوت أسماء فهذا واقع، نظراً لخفوت أدوات وبروز أخرى، فمنصة (إكس) مثلاً تختلف عن ملحق «عكاظ» الثقافي ومنصة أضواء سناب شات تختلف عن ملحق شرفات. صارت الساحة أوسع والزحمة أكثر وصار وقت المتلقي أقل وصدره أضيق. هي مرحلة غير واضحة لكننا سننضج أكثر. وهناك أسماء وجدت مكاناً معقولاً في المنصات الجديدة اشتغلت بما تفرضه من حضور كمّاً وكيفاً، الدكتور الغذامي على منصة (إكس) مثلاً يحضر بمعدل أكثر من 60 تغريدة يومياً للمحافظة على نصف مليون متابع. وهذا أمر مجهد ولا ريب. البقاء في المشهد مكلف وله شروط.

• كيف ترى تجربة الشريك الأدبي؟

•• فكرة جيدة تستحق التقدير، وكل تجربة جديدة هي جيدة من حيث المبدأ.. ولا أعرف إن كان العاملون في الشريك الأدبي خبراء ثقافيين أو لديهم مستشارون ثقافيون، مما رأيته واستغربت منه أن الشريك الأدبي يطلب من المقاهي، لإجازة ودعم أمسية شعرية مثلاً، توضيح محاور الأمسية الشعرية!

ومع ذلك فالمرحلة تقتضي وجود الشريك الأدبي، كما يجب أن تتطور هذه المبادرة بأهداف أعمق وأوضح.

وبالمناسبة لا أعرف إن كانت الثقافة بكل خطوطها الفكرية والنقدية بما فيها الفكر الديني ونقد الفكر الديني التراثي يقع ضمن اهتمامات الشريك الأدبي أو ضمن اهتمامات «هيئة الأدب والنشر والترجمة».. أتساءل وأنا أضع في الاعتبار مسمى وزارة الثقافة والمرحلة التي نعيشها.. فأنا لم ألحظ إقامة فعالية لنشاط من هذا النوع.

• ماذا لو عادت الصحوة من نافذة الأدب والثقافة؟

•• فكرة (الصحوة) ستظل كامنة في مكان ما في الرؤوس أو مكان ما في الوقت أو مكان ما في كتب التراث. تلك مسؤولية أجهزة الدولة وعليها أن تبقى يقظة كل يوم، في التعليم كما في الأمن. ومسؤولية المثقفين والعلماء بالدرجة الأولى أيضاً. فوطننا اليوم في مكان أفضل من الأمس، وفكرة الوطن لها أعداء في الخارج، ويجب ترسيخها في الداخل عبر كل حرف وكل نافذة وكل باب.

وسواء تعلق الأمر بأجهزة الدولة أو بالمواطنين فالتركيز يجب أن يكون محاربة فكرة الصحوة داخل ميدان الفكر، داخل مكامنها في كتب التراث. فكل ما يسمى بالصحوة تجد استنادها في صفحات تراثية كلنا نعرفها، داعش والإخوان والقاعدة والحوثي وقبلها حركة جهيمان وكل حركات الإسلام السياسي إنما تنطلق من أوراق في التراث. لا بد من الاعتراف بهذا وإلقاء الضوء المستمر عليه من أجل المستقبل.

• كم من الأشواط قطعنا نحو التنوير؟ ومسؤولية مَن هو؟

•• التنوير لا يتوقف؛ لأن الحياة لا تتوقف، ولأن العقل لا يتوقف. ونحن في بلادنا لم نتوقف عنه يوماً، حسب قدرات وظروف كل زمن. في هذه المرحلة فإن أكثر المسارات وضوحاً وإثارة ونجاحاً للتنوير هو المسار السياسي ويتبعه الاقتصادي، أما على مسارات الثقافة والتعليم والعلم فالأمور تحتاج وقتاً لتكون أوضح.

• بماذا تردّ على المطالبة بالتجديد الديني؟

•• أولاً علينا معرفة ما هو الدين.. لو رجعنا للكلمة في استخدامها القرآني لوجدناها تعني النظام. ضع لفظ «نظام» محل لفظ «دين» في آيات القرآن وتأمل المعنى.

الدين بالمعنى القرآني هو النظام، أي مجموعة الأفكار والمبادئ التي تحكم علاقة الفرد بنفسه أو تلك التي تحكم علاقته وتعامله بأسرته أو مجتمعه أو دولته أو مع الله، كل تلك هي دين أي نظام يدين به (يخضع بموجبه ومنه لفظ المدينة والدَّين) للتعامل مع سواه ويرتب له حقوق وواجبات. النظام الذي يتعامل به الشخص وحده مع الله ويدين به له سبحانه فهو ما يسميه القرآن «الإسلام»، وهو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وهو وحده لا يخضع للتجديد. وما عداه من أديان/‏ أنظمة، اجتماعية أو وطنية أو أممية فهي قابلة للتجديد حسب المصلحة. أما الفقه فهو علم كالقانون قابل للتغيير والتطوير حسب المصلحة. وكما يقول الشاطبي في جملة جامعة «حيث كانت المصلحة فثم شرع الله».

• متى شعرتَ بالتشبع من النصّ الشّعري؟

•• إذا صحت كلمة «تشبع» فهي حالة لحظية يبقى بعدها الشاعر داخل مواقد مشاعره وتطلعاته ليقولها باستمرار. تماماً مثل الظمآن للماء حتى يرتوي، فالقول الشعري عند الشاعر هو كالماء عند الظمآن. يعود الظمأ فيعود البحث عن «قول» الماء.

أنا لا أصدق أبداً أن القصيدة أو الشعر مشروع أو مشاريع يشتغل عليها الشاعر لينجزها، الشعر أبسط من ذلك وأكثر تعقيداً وصدقاً.

• هل القصيدة مرفأ تسلية وميدان استعراضي للغة؟

•• القصيدة كمرفأ تسلية أو استعراض للغة هذا موجود في الشعر العربي دائماً على هامش الشعر الحقيقي، كنوع من الطرافة لا غير. مثل «صوت صفير البلبل».

واليوم يجد الاستعراض اللغوي فرصاً أكثر بطلاء شعري بارد توفرها برامج المسابقات الشعرية كبرنامجي أمير الشعراء والمعلقة.

• ما سر انزياح شعراء عن القصيدة للفكر والفلسفة والغيبيات والأساطير؟

•• في العصر العباسي قال بعضهم عن شعر أبي تمام: «إذا كان ما يقوله أبو تمام شعراً فما قالته العرب باطل». وذلك لأنهم لاحظوا في شعر أبي تمام انصرافاً عن الشعور إلى الاستعراض اللغوي أو الاستعراض بالصور والخيال المبهر المتصنع تصنعاً بعيداً عن صدق الشعور. ولهذا فلحظة أبي تمام لحظة ما تسميه أنت «انزياحاً عن الشعر» التي أسست للصناعة الشكلية البديعية وما زالت تجد حتى اليوم من لم تسعفهم الموهبة إلا بها، حتى لتظن أن بينهم سباقاً على استخدام القصص والمقولات والآيات والأساطير «لنظمها» في كلام موزون مقفى مبهر للعامة لكنه ثقيل دم، وهو ما يشكل نبع متسابقين لا ينتهي لبرامج مسابقات الجوائز. فدونه لن يجدوا مئات المتسابقين سنوياً. وبالدعاية المدفوعة يصبح الفائزون نماذج للنشء.

في المقولات والآيات والأساطير شحنة شعرية كامنة فيها بذاتها وهؤلاء يستفيدون من الركوب عليها لرغبتهم القوية في الظهور كشعراء لكنهم يضرون بالشعر.

يبقى الشعر شعراً ويبقى الفكر فكراً والفلسفة فلسفة والأساطير أساطير مهما تقافز عليها المتقافزون.

• ما أثر محمد شحرور على توجه المبدعين المنتمين للغة بشيء من الافتتان؟

•• عندي قناعة أن تجديد وتغيير الوعي بالنص القرآني لا يمكن أن يأتي إلا من خارج المتخصصين في العلوم «الدينية» وهذه توفرت لشحرور رحمه الله. وأن متخصصي اللغة هم الأقدر والأجدر بالنجاح في ذلك، وهذا ما لم يتوفر له.

لا أعتقد أنه الوحيد أو الأول في تاريخنا الذي فكّر بتلك الطريقة، لكن لحسن حظه أنه عاش في زمن انتشار وسائل التواصل والقراءة والنشر التي سمحت له ولأمثاله بالمرور من رقابة السلطات الدينية.

محمد شحرور -رحمه الله- كان تفكيره متقدماً وجريئاً ويستحق التقدير والعرفان بجهده، لكن إمكاناته اللغوية محدودة الأمر الذي يجعله أحياناً يعتسف المعنى اعتسافاً.

• أين وصلت في مشروع التفسير لمفردات إشكالية في القرآن؟

•• لا توجد مفردات «إشكالية» في القرآن الكريم، لكن توجد فيه ألفاظ غاب معناها أو معانيها الكاملة تحت ركام الأقوال والمرويات فهي تحتاج إلى جلائها وإزاحة غبار الأقوال.

أنا ليست لي خطة محددة، بل أسجل ما ألاحظه حسب وقتي.

تخيل مثلاً أن لفظاً محورياً في القرآن مثل لفظ «سبّح» ينحصر معناه تراثياً في ترديد قول «سبحان الله» في أوقات وأعداد معينة، بينما هو يعني تمجيد الله تعالى بالقلب وترويض النفس عليه وغرس هذا التمجيد الوجداني في النفس صباح مساء.

وتخيل مثلاً أن لفظ «قتل وقتال» لا يعني في القرآن دائماً معنى القتال المسلح في المعارك. تخيل لو أعيد التفكير فيه لغوياً من خلال القرآن ألا يمكن أن ينير ذلك عتمة في التراث ينفذ منها أصحاب أفكار قتل الآخر المختلف؟!

تخيل مثلاً لو حسم الخلاف حول أيهما نزل آخراً هل سورة التوبة التي فيها تحريض واضح لقتال فئات من المشركين أم سورة المائدة التي لا يوجد فيها ذكر للقتال بالمرة؟ أليس حسم هذا الخلاف في صالح الإسلام ونقائه؟

أنا قدمت حتى الآن محاولات لإعادة إظهار المعاني البكر لألفاظ عدة في القرآن، منها لفظ «الاسم، الأسماء» بالشكل الذي يجعل الحوار حول الأسماء والصفات حواراً فائضاً عن الحاجة.

ومنها لفظا «المحكم والمتشابه» ولفظ «الصلاة» بمعناها العام.

وهناك ألفاظ مثل اللمم، العرش، الكرسي، مقام إبراهيم، الأهلّة، الأرض المباركة وأحداث قصة موسى حسب الرواية القرآنية. وكل ذلك في مقالات نشرت في الصحف السعودية ومنها «عكاظ». أرجو أن أجد الفرصة لإخراجها في كتاب، كما فعلت مع لفظ «الإحصان».

• ما الذي تودّ الوصول إليه ؟

•• أود الوصول إلى ما يمكنني الوصول إليه، وفيما يتعلق باللغة فأنا أطمح لتقديم خدمة للغة الكتاب العظيم، شيء يبقى بعدي.

• هل وجدت في حقول الزراعة منأى عن صخب التواصل؟

•• الزراعة فعل جمال عجيب في الأشياء المألوفة البسيطة، جمال لا يمكننا رؤيته وتذوقه إلا بعد أن نراكم تجارب وخبرات ثقافية جمالية معقدة..

الزراعة كذلك، علم مؤنس بمفرداته ثري بتفاصيله الجمالية، وهو إلى ذلك فعل خلق عظيم.


إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق