في أعماق دلتا النيل وتحديدا جنوب محافظة البحيرة، تبرز كوم الحصن كواحدة من أهم المواقع الأثرية التي تجسد عظمة الحضارة المصرية القديمة.
وهذه المنطقة التي حملت عبر العصور إرثًا ثقافيًا ودينيًا غنيًا، تعد اليوم بمثابة متحف مفتوح يروي تاريخ مصر بثرائه وتنوعه، مستقطبًا اهتمام الباحثين وعشاق التاريخ على حد سواء.
موقع استراتيجي ومركز تجاري وديني بارز
تقع كوم الحصن على ضفاف نهر النيل المار في دائرة مركز كوم حمادة، ما منحها موقعًا استراتيجيًا جعلها مركزًا تجاريًا ودينيًا بارزًا منذ العصور القديمة. كانت تُعرف قديمًا باسم “بر نب يامو”، أي مقر سيدة النخيل، في إشارة إلى الإلهة حتحور، إلهة الحب والجمال والموسيقى.
كما كانت تُعد مركزًا لعبادة الإله حور، الذي كان الإله الرئيسي في هذه المنطقة.
كوم الحصن عبر العصور
شهدت كوم الحصن تطورًا مذهلًا على مر العصور، بداية من عصر ما قبل التاريخ وحتى العصور الفرعونية والرومانية والإسلامية. وقد كانت هذه المنطقة بمثابة عاصمة للإقليم الثالث عشر من أقاليم مصر السفلى، والمعروف باسم “إقليم أمنيتي”.
تعد المنطقة مثالًا حيًا لتمازج الحضارات والثقافات المختلفة التي مرت بها مصر، حيث تتراص الآثار الفرعونية جنبًا إلى جنب مع المعابد الرومانية والنقوش الإسلامية، لتخلق لوحة ثقافية فريدة من نوعها.
مقبرة خسو ور.. كنز أثري فريد
من أبرز المعالم الأثرية في كوم الحصن مقبرة الكاهن “خسو ور”، التي تعود إلى عصر الدولة الوسطى.
هذه المقبرة، التي تم الكشف عنها لأول مرة عام 1910، تعد واحدة من الكنوز النادرة في الوجه البحري، نظرًا لكونها حجرية، وهو أمر غير معتاد في هذه المنطقة.
تم بناء المقبرة على طراز المقابر ذات الحجرة الواحدة، وزُينت جدرانها بمناظر تمثل الكاهن في أوضاع تعبدية مختلفة، فضلًا عن النصوص الجنائزية المستوحاة من متون الأهرام وكتاب الطريقين. كما تحمل جدرانها نقوشًا دينية وألقابًا متنوعة تعكس مكانة الكاهن وأهميته الدينية.
تاريخ الحفريات والاكتشافات
بدأت الأنظار تتجه نحو كوم الحصن منذ عام 1880، عندما اكتشف الفلاحون بالصدفة مرسوم كانوب الشهير، الذي يعود إلى عصر بطليموس الثالث. وقد أثار هذا الاكتشاف اهتمام علماء الآثار، مثل العالم البريطاني بتري الذي زار الموقع عام 1881، وجريفث الذي أجرى دراسات عليه في عام 1885، ثم دراسي في 1902.
وفي عام 1943، بدأت بعثة أثرية مصرية، بقيادة حمادة عامر وشفيق فريد ومصطفى الأمير، عمليات تنقيب واسعة استمرت حتى عام 1947. لاحقًا، تولت بعثات دولية، مثل بعثة جامعة واشنطن الأمريكية في الثمانينيات، أعمال التنقيب، مما أضاف إلى ثراء المعلومات حول هذا الموقع الفريد.
التوثيق والترميم الحديث
رغم اكتشاف مقبرة خسو ور منذ أكثر من قرن، إلا أنها لم تُسجل رسميًا إلا مؤخرًا، حيث تم قيدها تحت رقم (1) في سجل الآثار الثابتة بمنطقة آثار البحيرة.
وقد خضعت المقبرة لعملية ترميم دقيقة لضمان الحفاظ عليها في موقعها الأصلي.
كان هناك اقتراح سابق لنقل المقبرة إلى موقع آخر، إلا أن ذلك قوبل بالرفض من قبل الخبراء، الذين رأوا أن النقل قد يعرضها للتلف. وبدلًا من ذلك، تمت عمليات ترميمها وتطويرها هندسيًا في مكانها، مما أضاف إلى قيمتها الأثرية وأتاح الفرصة لجعلها متاحة للزوار والباحثين.
كوم الحصن.. نافذة على حياة المصريين القدماء
تمثل كوم الحصن أكثر من مجرد موقع أثري؛ فهي نافذة تتيح لنا فهم حياة المصريين القدماء، سواء في عاداتهم اليومية أو تقاليدهم الدينية. الآثار المكتشفة في المنطقة تسلط الضوء على أساليب بناء المنازل والمعابد، وأدوات الحياة اليومية، والفنون التي مارسها المصريون القدماء.
كما تكشف النصوص الدينية والجنائزية المكتشفة في المقابر عن فلسفتهم في الحياة والموت، والأفكار التي شغلتهم، وكيفية تعاملهم مع عالم الآلهة والعبادة.
استمرار البحث والاكتشافات
ما زالت كوم الحصن تثير اهتمام علماء الآثار والباحثين من مختلف أنحاء العالم. ومع استمرار أعمال التنقيب والتوثيق، يظل هذا الموقع يمثل رمزًا للتنوع الثقافي والتاريخي الذي يميز مصر.
رسالة خالدة من الماضي
تل كوم الحصن ليس مجرد موقع أثري، بل رسالة خالدة من الماضي تذكرنا بعظمة الحضارة المصرية القديمة وقدرتها على التأثير في العالم عبر العصور. هذا الموقع، الذي جمع بين التجارة والدين والثقافة، يمثل أحد أبرز الشواهد على تفوق المصريين القدماء وإبداعهم الذي لا يزال يلهم الأجيال حتى اليوم.
0 تعليق