فتحت بيانات معهد صناديق الثروة السيادية العالمية بشأن تخطّي قيمة أصول «احتياطي الأجيال» تريليون دولار في نهاية عام 2024 باب النقاش بشأن وظيفة صندوق الثروة السيادي الكويتي في الاقتصاد المحلي على المديين القصير والطويل.
ومع أن الإعلان عن تجاوز صندوق احتياطي الأجيال قيمة تريليون دولار، (أي ما يوازي 310 مليارات دينار) لم يكن صادراً بشكل رسمي من الجهة المعنية، وهي الهيئة العامة للاستثمار، إنّما من جهة موثوقة هي معهد صناديق الثروة السيادية، فالحديث عن الصندوق السيادي يجب ألّا ينحصر في اعتبار قيمة التريليون دولار لصندوق هو الأقدم في العالم ثروة قياسية، حيث حلّ الصندوق السيادي الكويتي من حيث قيمة الأصول في المرتبة الخامسة عالميا والثانية عربيا، بعد صناديق أُسست بعده بعقود عديدة، وهي النرويج والصين (صندوقان) وأبوظبي.
تعظيم احتياطي الأجيال يستوجب إعادة استقطاع لـ 10% وإشراكه في صندوق «سيادة المحلي» وتمويله للدَّين العام بفائدة استثمارية
أقل من الأسواق
ولعلّ تقييم كفاءة صندوق الكويت السيادي يجب ألّا تنحصر في مجرد قيمته، حتى إن تعدت تريليون دولار، بل بما هو أعمق من ذلك، أي تقييم كفاءة أدائه وشفافية بياناته وجودة وظيفته في اقتصاد البلاد، فبلوغ تريليون دولار يشير الى أن الصندوق حقق خلال عام 2024 ما يوازي 8 بالمئة كعائد سنوي، وهو أقل من عوائد معظم أسواق المال العالمية خلال الفترة ذاتها، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار فرضية أن الهيئة العامة للاستثمار تضع - من خلال مديري استثمار خارجيين - الشريحة الأكبر من استثماراتها في الولايات المتحدة، فإن أداء المؤشرات الأميركية كانت أعلى بشكل لافت من أداء الصندوق الكويتي، إذ حقق مؤشر ناسداك مكاسب بـ 31 بالمئة، وإس آند بي 24 بالمئة، وداو جونز 13 بالمئة، وحتى مؤشرات الأسواق الآسيوية الكبرى التي توجد فيها هيئة الاستثمار من خلال مكتبها في شنغهاي حققت عوائد أعلى من أداء الصندوق السيادي الكويتي، إذ كسب مؤشرا نيكاي الياباني وهانغ سينغ (هونغ كونغ) 19 بالمئة لكل منهما، فيما حقق مؤشر شنغهاي الصيني 13 بالمئة، وسينسيكس الهندي 9 بالمئة.
شفافية لا تفاخُر
ولأن استثمارات الكويت السيادية تتنوع أيضا، الى جانب الأسهم والأوراق المالية بين العقارات والسندات والاستثمارات المباشرة ومشاريع البنية التحتية موزعة بين مختلف قارات العالم، فإنّ أداء أسواق المال يعبّر عن مؤشر وليس يقينا لجودة الأداء، وهو ما يستلزم وجود درجة شفافية ووضوح في إعلان هيئة الاستثمار نفسها عن استثماراتها، وهو أمر ذو فوائد عديدة أقلّها إعطاء فرصة لتقييم الأداء الاستثماري من حيث الأنشطة والقطاعات والتوزيع الجغرافي من أطراف حيادية ومستقلة، فضلا عن تقييم جودة الأداء ودرجة المخاطر والمقارنة مع الصناديق السيادية الأخرى، خصوصا أن أداء جانب مهم من إدارة أصول الصندوق السيادي الكويتي هي لشركات إدارة أصول أجنبية بحاجة دائما إلى تقييم أدائها ومعرفة جودته.
شفافية «الأجيال» تسهّل تقييم الأداء وفرض الحوكمة ومعرفة مصير استثمارات في دول تدهور اقتصادها وعملاتها
ولعل التوسع في شفافية الصندوق السيادي يمكن أن يضع قواعد منهجية ومستدامة وليست انتقائية للإفصاح عن البيانات والأصول السيادية، وليس كما حدث في السنوات الماضية التي غلب عليها «التفاخر» بعرض البيانات الاستثنائية ذات النمو القياسي في أداء المحافظ الاستثمارية للهيئة العامة للاستثمار - ومعها التأمينات الاجتماعية - الناتج عن ارتفاع الأسواق العالمية وإخفاء أي بيانات عن الأداء حال تراجع أداء الأسواق العالمية، فضلا عن إعطاء الجهات المستقلة فرصة بيان وتحليل آثار الأحداث الاقتصادية العالمية، خاصة في ظل تنامي المخاوف العالمية حيال الحرب التجارية وأثرها على الأسواق وأسعار الأصول وبناء توقّعات مستقبلية يمكن أن تخدم سياسات وأداء الصندوق السيادي.
بل إنّ رفع مستوى شفافية الصندوق السيادي وتدفق معلوماته وبياناته ترفع من درجة حوكمته، مما يقلل فرصة عودة الذكريات الأليمة لاختلاسات الاستثمارات الخارجية في ثمانينيات القرن الماضي، فضلا عن كونها تكشف عن تأثير تدهور بعض الاقتصادات العربية وغير العربية وعملاتها الوطنية على الاستثمارات السيادية للكويت في هذه الدول... ولعلّ الحديث غير الفني عن ضرورة إخفاء معلومات الصندوق السيادي حتى لا تتسرّب أرقامه ومعلومات ثرواته للدول الأخرى لم يَعُد ذا قيمة مع إعلان المؤسسات المستقلة، وأهمها معهد الصناديق السيادية، لإجمالي أصوله فصليا وسنويا.
قيمة الصندوق الحالية ليست قياسية فهي تغطي نظرياً ميزانيات 12 سنة قادمة فقط بناء على مصروفات الميزانية الحالية
وظيفة ولعب
وتظل مسألة وظيفة صندوق احتياطي الأجيال في استدامة الكويت واقتصادها هي الأهم، فالصندوق الذي أدّى دورا محوريا خلال الغزو العراقي عندما استقطع نحو 70 مليار دولار، أي ما يوازي وقتها 40 بالمئة من إجمالي أصوله لتمويل مصروفات حرب تحرير الكويت يحتاج اليوم الى تدعيم دوره كوسادة مالية تقي البلاد آثار وتداعيات التقلبات الدولية من خلال مجموعة من الإجراءات تعزز من قيمته وكفاءته، الى جانب ما سبق ذكره عن جودة أدائه وشفافيته، فمن المهم اتخاذ مجموعة سياسات من شأنها تعظيم أصوله من خلال إعادة استقطاع نسبة الـ 10 بالمئة من إيرادات النفط لمصلحة صندوق احتياطي الأجيال، وهو استقطاع متوقف منذ «جائحة كورونا» وجعله لاعبا اقتصاديا محليا ليس بخسارة أصوله في تمويل عجوزات الميزانية ناتجة عن مصروفات جارية غير منضبطة، بل بإشراك الصندوق مع مؤسسات الدولة ذات الطبيعة الاستثمارية الأخرى كالتأمينات وصندوق التنمية ومؤسسة البترول وحتى أمانة الأوقاف وشؤون القُصّر في تمويل متطلبات الدين العام بفائدة استثمارية، وليس اقتطاعا من «اللحم الحي»، فضلاً عن استحضار فكرة سابقة تمثلّت في تأسيس صندوق محلي (صندوق سيادة للتنمية) يهدف الى معالجة اختلالات المالية العامة وسوق العمل ورفع كفاءة الناتج المحلي الإجمالي.
ثروة واحترافية
ربما يبالغ البعض عندما يعتقد أن أصولا بقيمة تريليون دولار، (أي ما يوازي 310 مليارات دينار) هي ثروة قياسية أو استثنائية، وبغضّ النظر عن كون القيمة تمثّل أصولا خاضعة لتقلبات الأسواق، فإن قيمة الصندوق الحالية تغطي ميزانيات 12 سنة قادمة فقط بناء على مصروفات الميزانية الحالية، وفق حسبة نظرية بحتة بصفر إيرادات نفطية أو غير نفطية، وهي إن كانت فرضية متشددة جدا، إلّا أنها تبيّن أن حجم الصندوق السيادي ليس ضخما جدا ليغطي فرضيات أخرى متاحة حتى لبضع سنوات أطول، كتصاعد مصروفات الميزانية وعجوزاتها، فضلا عن إمكانية تراجع إيرادات النفط وعوائده، وبالتالي، فإن التعامل مع صندوق الأجيال من حيث الأداء والشفافية والوظيفة باحترافية هو ما سيرفع من قيمته المالية والاقتصادية، ودون هذه الاحترافية سيكون مجرد «قيمة للأصول» تتغير كلما اختلفت معايير الأسواق ومخاطرها.
0 تعليق