لطالما كان من المُسلَّم به في النظام الرأسمالي أن الموارد نادرة، ولهذا فإننا نسعى دائما إلى تحسين الكفاءة والاستفادة القصوى من كل مورد. فمنذ بدايات الاقتصاد الرأسمالي، كانت الفرضية الأساسية هي الندرة، وهذا ما قادنا إلى بناء أنظمة تعتمد على تعظيم الإنتاجية وتقليل الهدر. ولكن ماذا لو وصلنا إلى مرحلة أصبحت فيها هذه الكفاءة عبئا أكثر منها ميزة؟ ماذا لو كانت هذه الكفاءة تعمل ضد الإنسان بدلاً من أن تخدمه؟
إن الهوس بالكفاءة قد يقودنا إلى فقدان الصورة الكاملة. عندما تُدار المؤسسات والشركات بمنطق تعظيم العائد وتقليل التكاليف، قد نصل إلى نقطة تصبح فيها هذه الكفاءة مضرّة بالقيمة الحقيقية التي تُخلق داخل المجتمعات. فالمؤسسات لا تقتصر على إنتاج السلع أو تقديم الخدمات فقط، بل هي منظومات تخلق فرص العمل، وتُبنى فيها العلاقات الإنسانية، ويُشكل فيها الوعي الجمعي حول معنى العمل والتعاون.
لقد حولتنا الرأسمالية، رغم منافعها، إلى آلات إنتاج ضخمة، حيث أصبح الأفراد مجرد وحدات إنتاجية تُعامل في نهاية المطاف كأرقام في ميزانيات ما. لم يعد الإنسان يُرى ككيان مستقل له احتياجاته النفسية والاجتماعية، بل كعنصر يجب تعظيم إنتاجيته بغضّ النظر عن الأثر الإنساني لذلك. هذه النظرة المجردة تقلل من قيمة العلاقات الإنسانية والبُعد العاطفي للعمل، وتجعل المؤسسات تفقد دورها في بناء مجتمعات متوازنة.
ومع تحسين الكفاءة، أصبحنا ماهرين في حساب الربحية والتكاليف بدقّة عالية، ولكننا لا نزال غير قادرين على قياس التكلفة البديلة والإبداع الضائع. إن التركيز على الأرقام فقط قد يجعلنا نغفل عن الفوائد غير الملموسة التي تنشأ من التفاعل البشري، والتجارب الإبداعية، والابتكار العفوي الذي لا يمكن حسابه بسهولة ضمن جداول البيانات.
خذ على سبيل المثال الفنادق الفاخرة. من الناحية المنطقية، وجود حارس أمام الفندق ليس ضروريًا. يمكن للزائر أن يفتح الباب بنفسه، ويمكن استبدال هذه الوظيفة بحساسات أو أبواب آلية. ولكن في الواقع، وجود الحارس يُضيف قيمة لا يمكن قياسها بالأرقام. هو ليس مجرد شخص يفتح الباب، بل هو جزء من تجربة الضيافة، وهو من يخلق شعورا بالترحيب والاهتمام الشخصي، مما يُضفي بُعدا إنسانيا على تجربة العميل.
المشكلة في الهوس بالكفاءة هي أنها قد تجرِّد العمل من بُعده الإنساني. في عالم الشركات، نجد أن التحول الرقمي والتشغيل الآلي قد أدّيا إلى استغناء الكثير من المؤسسات عن الموظفين الذين كانوا يشكلون جزءا من هوية العمل. من الناحية الاقتصادية، تقليل عدد الموظفين قد يكون منطقيًا، ولكن من ناحية التأثير الاجتماعي والإنساني، فإن هذا النهج قد يُفقد الشركة روحها، ويجعلها مجرد آلة لإنتاج الأرباح دون أن تراعي التوازن بين الكفاءة والتجربة البشرية.
خذ مثالًا آخر: التحول إلى أنظمة الرد الآلي في خدمة العملاء. من الناحية المالية، هذه الخطوة توفر الكثير من المال، ولكنها قد تؤدي إلى تجربة سيئة للمستخدم الذي يبحث عن تفاعل إنساني حقيقي لحل مشكلته. منطق الكفاءة هنا قد يحرم الشركة من بناء علاقة طويلة الأمد مع عملائها.
الكفاءة في حد ذاتها ليست مشكلة، ولكن عندما تُدار دون اعتبار للعوامل الإنسانية والاجتماعية، فإنها قد تصبح فخًا يقتل الإبداع، ويُضعف الروابط الاجتماعية، ويجعل من المؤسسات كيانات بلا روح. الحياة لا تُدار فقط بالمنطق البارد، بل هناك حاجة إلى فهم أعمق لأهمية العوامل غير الملموسة، مثل العلاقات الإنسانية والتجارب العاطفية التي تبني الولاء والانتماء.
لذلك، علينا أن نُعيد النظر في مفهوم الكفاءة، ونتساءل: هل نحن في طريقنا إلى تحسين الأداء، أم إلى تدمير القيم التي تجعل من العمل والمجتمع أكثر إنسانية؟
0 تعليق