د. علي محمد الصّلابي
إن الحديث عن مشروع وطني جامع أصبح حديث كل المخلصين من أبناء ليبيا، خاصة بعد التغيير الكبير الذي حدث بعد سقوط النظام السابق، حيث تعددت الرؤى الحزبية والقبلية والجهوية والفكرية لبناء الدولة.
كما كان لبعض الأنظمة الاستبدادية دور في الفوضى التي يعيشها الوطن والمواطن، وشارك في ذلك بعض أبنائه وهم قلة همهم المال والجاه والنفوذ والسلطان وكثرة الأطماع في ثروات البلاد ومحاولة السيطرة على قرارها السياسي والأمني والاقتصادي والعسكري.
لكن أحرار ليبيا يبحثون عن مشروع متماسك يجمع القوى الوطنية الصادقة لمقاومة التحديات الداخلية والخارجية، وهذا مقترح قابل للنقد والزيادة والحذف والتوجيه والترشيد، بغية الوصول إلى مشروع وطني فكرته المركزية، السلام والمصالحة الوطنية.
إن تجارب التاريخ القديم والحديث تخبرنا، بأن قرار السلام هو قرار سياسي بالدرجة الأولى، مؤيد من قاعدة شعبية عريضة لا تعترض على القيادة المنتخبة الموثوق بها، ابتداء من النبي (ﷺ) الذي بايعه المسلمون سواء في البيعة الأولى أو الثانية، أو غيرها والأمثلة على ذلك كثيرة منها:
1. ففي فتح مكة، قرار العفو عمن قاتل النبي (ﷺ) وحارب الإسلام وقتل المسلمين ونهب أموالهم وديارهم وسفك دماءهم، كان قرارا سياسيا مُسهما في تجسيد مرحلة جديدة من تاريخ الإسلام.
2. في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بعد أن كسر شوكة الردة وأسر سادة التمرد من أمثال الأشعث بن قيس الكندي وعمرو بن معد يكرب الزبيدي عفا عنهم وكذلك عفا عن طليحة الأسدي الذي ادّعى النبوة ثم تاب وأناب، فكان قرار العفو سياسيا من أبي بكر رضى الله عنه فصلح حال القادة، وكسب قبائلهم لصالح الدولة وحسن إسلامهم.
3. في عهد الحسن بن علي رضي الله عنه، تقاتل المسلمون فيما بينهم، وانقسمت الدولة إلى دولتين، دولة في العراق عاصمتها الكوفة بقيادة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ودولة في الشام عاصمتها دمشق بقيادة معاوية بن أبي سفيان، ثم بعد استشهاد علي رضي الله عنه اختار الناس الحسن بن علي رضي الله عنه، واشترط عليهم في بيعته، تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت، فوافق أهل العراق على ذلك وتنازل الحسن بن علي عن حقه الشرعي لمعاوية بن أبي سفيان لتحقيق:
• وحدة الدولة والأمة.
• حقن الدماء بين المسلمين.
• الرغبة فيما عند الله من أجر.
وقدم مشروعا بنى فكرته على السلام والمصالحة وبعد مفاوضات عديدة وشروط بين الطرفين منها التكفل بجبر الضرر والاتفاق على دستور الدولة وغيرها من الشروط. فكان التنازل من الحسن لتحقيق السلام والمصالحة قرارا سياسيا بامتياز حقق فيه نبوءة النبي (ﷺ). إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين وبين الحسن من خلال موقفه الإنساني الرفيع وحسه الإيماني العميق، أن من معاني السيادة حفظ الدماء ووحدة الدولة وتماسك الأمة والتنازل عن الحقوق مقابل مقاصد سامية.
4. في جنوب افريقيا، أكل الصراع بين السود والبيض الأخضر واليابس واستمر عقودا من الزمن، فكان رئيس الوزراء الأبيض الرجل العاقل والحريص على دولته وشعبه، له رأي فريد في زمنه، فقرر إخراج زعيم المعارضة الأسود مانديلا من السجن وجلس معه ووضعوا رؤية للمصالحة فكان قرار رئيس الوزراء، بإخراج مانديلا من السجن بداية الانطلاقة في تجربة إنسانية، أصبحت مرجعاً لدُعاة السلام في العالم واتفقت الحكومة والمعارضة على مشروع وطني استخدمت فيه أدوات الدولة ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية والأمنية والقضائية والدينية لتحقيق السلام والمصالحة، فكانت بداية الخطوة للتوافق على المشروع ثم تنفيذه قرارا سياسيا.
5. الجزائر، مرت الجزائر بالعشرية السوداء فكانت كابوسا وظلاما على الدولة والشعب وأصبح أبناء الشعب الواحد من الطرفين بين قتيل وجريح ومشرد، حتى تقدم السيد عبد العزيز بوتفليقة في برنامجه الانتخابي للرئاسة وكان مشروعه مُنصباً على المصالحة، واستطاع الرئيس بوتفليقة ومن خلفه الشعب الجزائري، أن يخرجوا من النفق المظلم من خلال إحلال السلام والمصالحة.
أما التجربة الإنسانية العالمية قديما وحديثا في التاريخ الأوروبي والأمريكي والأفريقي والآسيوي، تؤكد أهمية القيادة السياسية المؤمنة بمشروع السلام والمصالحة، وكذلك على الوطنيين المؤمنين بالمصالحة، أن يتكتلوا في مشروع له رؤية واضحة وقيادة منتخبة وإدارة حديثة، وأن ينظموا أنفسهم من خلال عمل مؤسسي يلبي احتياجات الشعب والمرحلة التي تمر بها البلاد.
فكان هذا المقترح بعد حوارات مع ألوان طيف وطني لإيجاد الوسائل والسبل لتحقيق الأمن والاستقرار في البلاد والمحافظة على سيادتها وتنمية مقدراتها وتحقيق أهدافها السامية، وهو النقاش وتعميق الرؤية وتجويد الفكرة، وتحسينها، فأشار هذا المقترح إلى:
1. أهمية الفكرة المركزية (السلام والمصالحة) في بناء الدولة.
2. الوصول إلى جمعية عمومية منتخبة، تمثل النسيج الوطني الليبي لها قيادة منتخبة.
3. الاتفاق على ميثاق يمثل القيم الوطنية لهذا التكتل.
4. إيجاد لوائح وتنظيمات تضمن مسار الجمعية العمومية لتحقيق أهدافها.
5. رسم صورة الرئيس القادم الذي يدعمه التكتل من خلال معايير وصفات واضحة المعالم، والاتفاق على شخص تتجسد فيه هذه المعايير والصفات.
6. دراسة التحديات الخدمية والأمنية والاقتصادية... إلخ من خلال المتخصصين وإنشاء مركز للدراسات متعلق باختيار الحكومة القادمة، وتقديم المشروعات المستعجلة وتحديد الأولويات وغيرها، وإسناد الملفات الساخنة إلى لجان متخصصة من أهل الخبرة والكفاءة.
7. الاستعداد للانتخابات القادمة البرلمانية والاتفاق على قائمة تمثل المشروع الوطني للسلام لرجال ونساء آمنوا بالسلام ولديهم من الملكات والقدرات والكفاءات والأخلاق والصفات، ما تؤهلهم لهذا المنصب التشريعي تحت مفهوم المواطنة.
8. تقديم برنامج انتخابي للشعب يُبين فيه التكتل مشروعه في السلام والمصالحة ورؤيته ووسائله لتحقيق ذلك، ويوضح فيه نظرته للدولة وواجبات الحكومة والدستور والقانون والحريات والمواطنة والمدنية والقضاء والمؤسسات والعلاقة بينهما والأجهزة الأمنية والعسكرية. كما يبين فيه التكتل أيضا موقفه من التطرف الفكري والهجرة غير الشرعية والتخطيط والإدارة والاقتصاد والإعلام والفنون والتعليم والعلاقات الخارجية والإسكان والعمل والأدب والمرأة والطفولة والشباب والسياحة والشيوخ والبطالة وذوي الاحتياجات الخاصة جسديا ومعنويا ونفسيا، إضافة إلى الرؤية من رعاية الأيتام والأرامل وتزويج وتجهيز الفقراء من أبناء المجتمع ورعاية اللقطاء، وذوي العاهات والأمراض المزمنة والاهتمام بالبيئة والصحة والرياضة والثقافة والمحاسبة والمراقبة، وكل الأمور المتعلقة بإنشاء دولة قوية حديثة تلبي مطالب الشعب وتسهم في الأمن والتنمية والازدهار الحضاري المحلي والإقليمي والدولي.
إن هذا المشروع المطروح يُؤمن بالمراحل وإن الزمن جزء من العلاج، كما أنه يرى أن الوطنيين من الرجال والنساء من أصحاب المبادئ القيم والفكر الثاقب والمؤمنين بالكفاح والنضال السلمي لبناء الوطن وترقية الشعب، هم العدة والعتاد بعد توفيق الله عز وجل، للوصول إلى دولة تجسد المعاني الإنسانية المثلى والقيم الوطنية والمقاصد القرآنية والمصالح الفردية والمجتمعية وفي الصفحات القادمة شرح لما في المقدمة كرؤية عامة للمشروع الوطني للسلام والمصالحة.
0 تعليق