كتب ـ أحمد الجارالله:
في خمسينيات القرن الماضي، وبعد أزمة حكم، كما حصل في السنتين الماضيتين، اتفق يومها على رئيس للجمهورية، فقال مرشح منافس لمن كان في مجلسه: "بقاش بدها قوموا نهني"، وذهبت هذه المقولة مثلاً في لبنان.
هذا انطبق على النواب اللبنانيين الحاليين، الذين تصارعوا نحو 30 شهراً، على المنصب الأول وسقط بلدهم في الفراغ، لأن أحد الفرقاء أراد احتكار القرار، ليجعل مرشحه رئيساً، ولو بالقوة، وحين جاءت "التعليمة"، (كما اتفق اللبنانيون على هذا المصطلح)، اصطف الجميع أمام صندوقة الاقتراع لانتخاب قائد الجيش جوزاف عون رئيسا، وقالوا لبعضهم بعضاً "قوموا نهني".
هذا الانتخاب، مهما قيل فيه، يبقى الأساس الذي راهنت عليه دول القرار العربي، لأنها رأت في الرجل طوال سبع سنوات من قيادته للجيش، وفي أصعب المراحل، حاجة ضرورية إصلاحية لقيادة بلاده نحو الاستقرار.
صحيح، ليست لدى عون عصا سحرية، خصوصاً أنه واقع تحت ضغط كبير، فالجنوب ومعظم المناطق مدمرة، جراء مغامرات "حزب الله" الذي كان ينفذ الأجندة الإيرانية بحرفيتها، غير عابئ بما جرّه على الشعب اللبناني من ويلات، منذ دخل الحياة السياسية عام 1992 إلى وقتنا هذا.
كذلك هناك أزمة اقتصادية ومالية متعددة الجوانب، وأيضاً انقسام شعبي بفعل الممارسات الطائفية والفتنوية التي مارسها "الحزب الأصفر" سعياً إلى احتكار التمثيل الشيعي في المؤسسات، بعد حرب أهلية أكلت الأخضر واليابس، وزاد عليه صاحب "الرايات الصفر" تجفيفه الرأي الآخر، ما أدى إلى اصفرار أوراق الأرز، فتحول لبنان منبوذاً بين أشقائه العرب.
منذ الأمس، بدأ جوزاف عون، مهماته كرئيس جمهورية، وهذه الشخصية العسكرية التي عاشت معظم حياتها في البذلة الزيتية، تدرك أن شعبه علق الآمال عليه كي يخرج بلاده من المأزق الكبير.
صحيح أن أهل البلاد يعرفون أن خلاصهم يبدأ من تنفيذ تعهده بحصرية السلاح بيد الدولة، وعدم جعل لبنان ممراً أو مصنعاً للمخدرات، كما كان عليه حين أفسح في المجال لـ"حزب الشيطان" كي يعمل على ترويج الإرهاب الناعم في دول الخليج العربية، عبر صناعة وتهريب "الكبتاغون" وغيرها، بالتعاون مع المخابرات السورية في عهد المخلوع بشار الأسد.
هذا التعهد الرئاسي لا يقبل أن تكون هناك أي مساومة، لأن هذا يعني أن هذا البلد الجميل، الذي كان يوصف بـ"سويسرا الشرق"، حكمته طوال خمسين عاماً أسوأ طبقة سياسية يشهدها العالم في العصر الحديث، وأن الخلاص منها يمر عبر طريق اللا شرعية لأي سلاح غير ما بيد القوات المسلحة، التي أصبح جوزاف عون قائداً لها.
لهذا، حين يقول في خطاب القسم أمام نواب بلاده: "لبنان يمر بأزمة حكم يُفترض فيها تغيير الأداء السياسي"، وتعهده بالعمل على تحقيق استقلال القضاء وتفعيل وإصلاح كل مؤسسات الدولة، فهو يعبر عن لسان حال اللبنانيين، وأنها باتت بحكم المرذولة، وهو كلام واضح موجه لـ"طبقة المافيا".
ولأن أي تغيير يبدأ من قانون الانتخاب، ومن يطلع على خطب وتصريحات جوزاف عون في قيادة الجيش يعلم أنه لم يكن راضياً عنه، لأنه يؤدي إلى تأبيد حكم "الزعران"، الذين قبلوا المساومة على مصلحة بلادهم عبر رشاوى انتخابية، ومالية، ومصالح خاصة أدت إلى إفقار اللبنانيين، وإفلاس البنوك، فيما بات "القرض الحسن" بنك "حزب الله" المصرف الأكبر في لبنان.
لهذا تُعلّق الآمال على جوزاف عون، رغم صعوبة مهمته، فهو القوي الأمين، في هذا الشأن، ربما من المفيد العودة إلى قصة نبي الله موسى (عليه السلام) حين جاء إلى مدينة مدين، ورأى حادثة المرأتين اللتين أرادتا ملء جرتيهما، إلا أن القوم حالوا دونهما، فساعدهما، ولهذا ورد في كتاب العزيز الجبار الآية الكريمة: "قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ".
بل كما اتضح في اليومين الماضيين أن هذا لسان حال غالبية الشعب اللبناني بالنسبة للرجل، نظيف الكف، لم يلوث بأي صفقات، وتشهد له ممارساتها طوال سنوات وجوده في قيادة الجيش.
في المقابل، يترجم انتخاب عون تحولات تاريخية في ميزان القوى اللبنانية والشرق أوسطية، خصوصاً بعد ضعف الذراع الفارسية، التي عملت طوال أربعة عقود على جعل بيروت، التي كانت تدعى عاصمة الجمال والإبداع والحرية، مجرد صندوق بريد إيراني تناكف فيه طهران العواصم العربية.
هذه الأيقونة من المفترض أن تعود إلى سابق عهدها مع الرئيس الجديد، وأن يعتمد العهد الجديد على اللبنانيين الذين اشتهروا بثقافتهم العالية، وعملهم الدؤوب في بلاد المهجر التي لجأوا إليها، فبنوا صناعات ومؤسسات، وأبدعوا في شتى المجالات.
لذا هم في هذا الحين ينتظرون أن تكون الحقبة الجديدة، فسحة لهم لإثبات حضورهم في بلدهم، ويعولون على الدعم العربي والغربي في مساعدتهم ليخرج هذا البلد الجميل من نفق الأزمة، ويعود كما يقول أهله "طائر فينيق" يرفرف مرة أخرى في دنيا العرب.
0 تعليق