«دمشق الشام» كم أحن إليها! ربما لا تعرف عزيزى القارئ أنه فى سوريا، بل فى كل بلاد الشام، أعنى سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، يُطلَق لفظ «الشام» على مدينة دمشق، كما نُطلِق نحن على القاهرة «مصر».
وتزخر المصادر التاريخية بوصف دمشق على أنها «الشام الشريف»، سواء لوجود العديد من الأضرحة الدينية بها، والأماكن التاريخية، ومنها المسجد الأموى، أو لكون دمشق هى الممر الأساسى لقافلة الحج الكبرى التى تأتى من إسطنبول، أيام الدولة العثمانية، مرورًا بحلب، إلى دمشق الشام، لتهبط جنوبًا إلى الجزيرة العربية، فالحجاز والحرمين الشريفين.
وتعتبر مدينة دمشق من أقدم مدن العالم؛ إذ لا يقتصر تاريخها على التاريخ الإسلامى أو الحديث، بل يمتد إلى ما هو أقدم من ذلك بكثير.
عادت دمشق الشام إلى ذهنى من جديد مع تصاعد الأحداث الأخيرة، واقتحام الفصائل المسلحة مدينة إدلب، إحدى أهم مدن الشمال السورى، ثم سقوط حلب الشهباء فى أيديهم بعد ذلك، وحلب، وما أدراك ما حلب، هى أكبر مدينة سورية، أكبر حتى من دمشق، وهى مدينة تاريخية عريقة، ومركز تجارى شهير عبر التاريخ، وحتى الآن. وربما من هنا جاءت التعددية العرقية والدينية التى عرفتها المدينة عبر تاريخها الطويل.
عشت فى دمشق وحلب أسابيع عديدة، وعلى فترات مختلفة، أتذكر أول مرة زرت فيها دمشق، وكان ذلك فى عام ١٩٩٨، فى عهد حافظ الأسد. كانت الحياة آنذاك بسيطة، تشبه الحياة فى مصر فى سنوات الخمسينيات والستينيات. كانت هناك قبضة سياسية قوية، لكن الحياة الاقتصادية كانت مستقرة، والأسعار رخيصة جدًا، والاعتماد الأكبر على المنتج المحلى، وليس هناك تقريبًا أى استثمارات أجنبية.
وفى عام ٢٠٠٠ مات حافظ الأسد، ووصل ابنه الشاب «بشار» إلى الحكم فى ظروفٍ معقدة، فلم يكن هو فى الأصل خليفة الأسد، ولكنه وصل للحكم بعد مصرع أخيه أثناء حياة أبيه. أجمعت أجنحة الدولة العميقة فى دمشق على وصول بشار إلى الحكم، حتى يستمر حكم حزب البعث، وحكم المؤسسة العسكرية. تفاءل السوريون بوصول الشاب «الدكتور» بشار الأسد، الذى تعلم فى الخارج، وظن الجميع إمكانية بداية عصر جديد. وبالفعل حدث انفتاح اقتصادى ملحوظ، صاحبته فى البداية انفراجة سياسية، وانتعشت أسواق دمشق وحلب، وبدأت الاستثمارات الأجنبية، ولم تعد مقاهى دمشق تغلق عند الثامنة مساءً، بل تحولت بعض المقاهى الشهيرة فى دمشق إلى منتديات سياسية، وبات كما لو كانت سوريا تدخل بالفعل القرن الحادى والعشرين.
لكن أجهزة الدولة العميقة فى دمشق لم تسمح باستكمال المسيرة، ربما سمحت للعديد من مظاهر الانفتاح الاقتصادى، لكنها رفضت الجزء الثانى من الإصلاح، وأعنى الإصلاح السياسى. ونجحت هذه الأجنحة فى إقناع بشار الأسد بخطورة المضى قدمًا فى الإصلاحات السياسية، كما خاف بشار من خطورة التدخلات الخارجية فى شئون سوريا، وأدى كل ذلك إلى تعطل مسيرة الإصلاح، وتراجعت إلى حد ما الشعبية الكبيرة التى حازها بشار فى بداية حكمه. وعندما بدأت أحداث الربيع العربى كانت الأمور فى سوريا تسير إلى الأسوأ؛ تراجع فى شعبية النظام، وعدم قدرة على المعالجة السريعة للأزمة، وانقسام كبير فى الجيش العربى السورى، وتصاعدت إلى السطح كل التناقضات المذهبية والعرقية والسياسية، وعاد من جديد الصراع الدولى على سوريا، ووصلنا إلى تمزيق أوصال سوريا، بين أراضٍ خاضعة للنظام، وأراضٍ خاضعة لفصائل دينية مسلحة، وأراضٍ خاضعة للأقلية الكردية، ووجود عسكرى أجنبى سواء روسيًا أو إيرانيًا أو تركيًا أو حتى أمريكيًا!
حفظ الله سوريا الحبيبة.
0 تعليق