إنّ واقعَ لبنان لا يستلزمُ كبيرَ عناء للتّدليل على أنّ ما حصلَ كان احتقاناً حقيقياً مرعِباً، موروثاً عن ممارساتٍ مُموَّلَةٍ بشعاراتٍ زائفة.
وإنّ الذين تربّعوا على رؤوس النّاس، في غالبيّتهم، كانوا على مساسٍ مباشرٍ مع الأزمة، لكنّهم، وتحت جِلدِ السّلطةِ والاستقواء، مارسوا، في العَلَنِ، تصريحاتٍ مُخَيِّبةً لا يزالُ الشّعبُ المقهورُ يتذكّرها، في حين اقترفوا بحقِّ البلاد ظُلماً، وقَهراً، وفساداً، وبِحَقِّ الإخوةِ في الخليجِ عدائيّةً مُستَفحلةً مرفوضة.
إنّ الخَلطةَ الفاسدةَ قد استأثرَت بقرار الدّولة، وأطبقَت على مؤسّساتِها، وقلَّصَت مساحةَ الثّقة حتى بين المُواطنِ ونفسِه، وأساءَت الى علاقةِ لبنانَ المتينةِ بأشقّائه، فواجهَ الوطنُ، بهم ومعهم، سقطةً تراجيديّةً ختمَت، بفِعلِها التّدميريِّ العنيف، وعلى المستويات كافةً، أيَّ أملٍ بالنُّهوض.
فالحاكِمون والمستَقوون الذين أحبّوا الباطلَ، وحاربوا الحقّ، نحروا سمعةَ الوطن، وضربوا مصالحَه الحيويّة، لا سيّما مع أشقّائه، وأودوا به الى الإفلاس، والفوضى، والى هجرةِ نُخَبِهِ، فباتَ دربُهُ كثيرَ الحُفَر. إنّ أملَنا ألّا تتكرَّرَ هذه السّقطاتُ مع المسؤولين الجُدُد.
وبعد، في غمرةِ هذا السَّيلِ العارمِ من الأحداثِ التي لم تُنتِجْ، عندَنا، إلّا الكوارث في الاقتصاد، والأمن، والنَّقد، والتّعليم، والاستشفاء، وغُربةِ لبنانَ عن أشقّائِه، ناهيكم عن تداعيات الحروبِ المتنوّعة، من ضحايا ودمار، لم يَخْفَ قَمَرُ الأشقّاء، ولم يُجحِفْ بنورِه الأصيل والنّبيل، وترسَّخَ إدراكُنا أنّ عنايتَه بنا لا تَشيخ.
فالإحساسُ الصّادقُ العميقُ لدى الأشقّاء، إنسانياً، وعُروبيُّا، كان كالغَدير الذي لا ينقطع، ولطالما تدفّقَ منه الاهتمامُ المتَتابِعُ بالقضية اللبنانيّة، والعنايةُ الشّديدة بأحقيّةِ أهلِ البلادِ في عيشٍ سلميٍّ، والمساعداتُ المتواترةُ من دونِ مِنّة.
إنّ أشقّاءَنا في دُوَلِ الخليج، خصوصا، كانوا، طوالَ معاناةِ بلادِنا على مَرِّ عقودٍ من الزّمن، الكَتِفَ المتينةَ التي استندَ إليها لبنانُ فلم تخذلْهُ، فالملوكُ والأمراءُ والشّيوخُ، بشخصيّاتهم اللّامعةِ الشّاهقة، آثروا مواكبةَ الأوضاعِ في بلدِنا، مواكبةً لم تَقلَّ، يوماً، حجماً واندفاعاً وقيمةً. ولا عَجَب، فإنّ بينهم وبين ملامحِ الكَرَمِ والشّهامة، تلازُماً موصوفاً، شأنُهم شأنُ نَبعِ الماءِ الصّافي، كثيرِ الزُّحام.
إذا كان الأقلّون جاحِدين في معرفةِ نُبلاءِ الخليج، يروِّجون لبِدَعٍ مردودة، فأكثرُ الخَلقِ، عندَنا، يعرفُ، تماماً، أنّهم اللّحظةُ النّادرةُ في مواسمِ الحاجة. فالمحبةُ تورِقُ بأرضهم، والكرامةُ هي نسيجُ سلوكِهم، والإعانةُ أبهى حُلَلِهم.
في مُعجمِ رسالتِهم الأخويّة، جدّيةُ الوقوفِ الى جانبِ لبنان، لإعادةِ الأهميةِ للمُعطى القانونيّ للدولةِ فيه، وذلك، بمسؤوليةٍ لا تقصيرَ فيها، اعتبروها واجباً أساسياً في جدولِ أعمالِهم، وقد قاربوه بحميّةٍ لها مَذاقٌ خاص، وكأنّها جُرعةُ نُضجٍ لِقاصِر.
إنّ ابتهاجَنا بدَعمِ أشقّائنا في دُوَلِ الخليج العربيّ، مردُّه الى حقيقةِ هؤلاءِ الصّالِحين الغيارى على مصلحة لبنانَ، الذي أرادوا أن يُبعَثَ حياً من تحت رَمادِ الشّدائد، ليستعيدَ سيادتَه، واستقرارَه، ويَقينَه بوجودِه الفاعِلِ في البيئةِ العربيّة، وفي العالَم، وطنًا غيرَ مُنتَكَكٍ أو ضحيّة.
أمّا المِعيارُ الرّشيدُ والثّابتُ، في تسليكِ علاقةِ المسؤولينَ في الخليج بلبنان، والذي ينبغي التَنَبّه لأهميّتِه، فهو قرارُ عدمِ تدخّلِهم بشؤونه، على الإطلاق، من هنا، لم يتعاطَوا معه، مثلَ سواهم المعروفين، كأوصياء على أنّه ولايةٌ يُخضعونَها لإرادتِهم، ويُديرونَ أمورَها تِبعاً لمصالحهِم، ويرفعونَها ورقةً حول أيِّ طاولةٍ للتفاوض. وهذا ما يُشهَدُ لهم به، ويُقَدَّرُ عاليًا، على السّواء.
لم تكنْ مواقفُ أصحاب الشّأنِ من ملوكٍ وأمراء، مقصورةً على رعايةِ اللبنانيّين المُستَضافين في بلدانِ الخليج العربي، طَلَباً للرِّزق، وهي رعايةٌ لا تُنالُ إلّا من رُوّادٍ ينفردون بحسِّهم الإنسانيّ، والأَخَوي، وينثرون من قلوبِهم خُلاصات، بحيثُ باتَت فاعليّتُهم كأشخاص، فاعليّةَ أُمَم. إنّما كانوا الصَّوتَ الذي دعا مرجعيّاتِ العالَم لنُصرةِ لبنان، وللتحرّكِ السّريعِ حتى يعودَ السّلامُ الى رُبوعِه، والأمانُ الى شعبِه، والعدالةُ الى مُناخِه السياسي، والإصلاحُ الى مؤسّساتِه، والسّيادةُ الى قرارِه، والأملُ الى أجيالِه.
إنّ هذا التحرّكَ الصّادرَ عن استقامةِ القلب، وكَمال الخُلق، واندفاعِ العزيمة، يقتضي، حتماً، رَدَّ الجَميلِ بجَميلِ الشّكر، وعكسُ ذلك خطيئة.
إنّ رحلةَ لبنانَ مع أشقّائه في دُوَلِ الخليج العربيّ، هي رِفقةُ كِبار، وأُخوَّةُ قاماتٍ تحملُ قلوباً طافحةً بالمحبّة، والنُّبل، ومُتوشِّحَةً بوشاحِ القِيَم، وسالكةً طريقَ الإيمانِ بالله، عزَّ وجلّ، وهو المصدر الأعلى للحياة، وبالإنسانِ الذي يمتثلُ لِهَديِ الخالِق، ووَحيِ رُسُلِهِ، في تأكيدِ حقيقتِه الإنسانيةِ، بإيمانٍ، ورُقيٍّ، وطُهر.
إنّ شكرَنا يرفضُ الصَّمت، رَّغم الموقفِ الرّافضِ لإخوتِنا الخليجيّين المُتضَلِّعين في مناقبيّةِ الهِبات، والمساعدات، والإعانات، والصَّلاح، والذين، لولا إسهامُهم الكريمُ غيرُ المحدود، لَغابَ عنّا الرّجاءُ بغَدٍ أفضل، تزولُ فيه محطّاتُ النّكبة، والهمومِ، والأوجاع، وسلاسلُ القهر، ولَولا قُدوتُهم ونبالتُهم لَما كان لنا سبيلٌ الى حياةٍ سلاميّةٍ واعِدة.
إنّ عزاءَ اللبنانيّين أنّ إخوتَهم الخليجيّين موجودون، بتراثِهم المتأصِّلِ بذخائرِ الخير، والمروءة، والكَرَم، وإعانةِ الملهوف، وحكمةِ المحبّة. فلهم مِنّا، ومن صميمِ الرّوح، الشكّر العارم، والامتنان الوافر، ومع ذلك، نحنُ مُقَصِّرون.
0 تعليق