اهتزت القاهرة فهرع الناس للشوارع، بينما بقيت فى مكانى على مائدة الطعام.
فى الثالثة عصرًا، جلست كعادتى لتناول الغداء مع أمى وأختى الوحيدة مروة. وفى تمام الثالثة وتسع دقائق وقع الزلزال. للحظات أصابتنى صدمة، ثم بدأت أستوعب ما يحدث. أحتاج وقتًا طويلًا لأصل لأى قرار. أحيانًا أظل فى شكوكى وظنونى وترددى لسنوات، فكيف سأتخذ قرار الفرار من الفيلَّا وقت الزلزال فى ثوانٍ قليلة؟
قبل هذا اليوم بشهرين، فى أغسطس ١٩٩٢، زلزلت كيان البيت، بل القول بأن ما فعلت أشبه بالزلزال فيه تقليل من شأن فعلتى. لنقُل إنى ألقيت قنبلة يدوية فى حجرة صغيرة فيها أبى وأمى ومروة.
أنا الابن الأصغر للأستاذ الدكتور «كمال سعيد أبوالمكارم»، رئيس قسم الجراحة العامة بكلية طب قصر العينى. عمى هو الأستاذ الدكتور «جمال أبوالمكارم»، الأستاذ بنفس الكلية وصاحب مستشفى خاص شهير فى منطقة المهندسين. والدتى هى الأخرى أستاذة بنفس الكلية، ومروة «يا سبحان الله!» طالبة بالكلية ذاتها!
نشأت فى بيت الحكمة- وهو اسم نقابة الأطباء بالمناسبة- فجدى، «سعيد بك أبوالمكارم»، هو أحد أطباء الملك فاروق. كل أولاده وأحفاده التحقوا بنفس الكلية، تزوج أبى وعمى من طبيبتين أيضًا. ولدتُ فى مستشفى قصر العينى، وهو مكان مقدس بالنسبة لعائلتى كلها، هو بيت أبى وعمله ومكتبه. لا أذكر أنى زرت يومًا طبيبًا فى طفولتى.
تفوقت فى الثانوية العامة، فقارَب مجموعى النسبة التى حصل عليها جمال عبدالناصر فى الاستفتاء الرئاسى عام ١٩٦٥. ملأ أبى استمارة التنسيق، وكتب فيها الرغبة الأولى فقط، وبالطبع فهى نفس الكلية التى يعمل بها والتى تَدرس فيها مروة. حصلت على استمارة أخرى من التنسيق، وكتبت فيها رغبتى الحقيقية، والتى أخفيتها عن عائلتى لسنوات.
قضيتُ طفولتى بين العيادات والمستشفيات، واعتدت أسماء العقاقير الطبية. رغم كل ذلك أخفيت عن أبى وأمى أنى أكره الدماء، وأخاف الموت، وأهاب آهات المرضى. مجرد التفكير أنى سأقضى عمرى مثل جميع أفراد عائلتى، بين غُرف العمليات والعناية المركزة، كان يصيبنى بالغثيان. يوم وفاة جدى «تُوفى فى العناية المركزة بقصر العينى بالمناسبة» نبتت بذرة التمرد داخلى، قررت ألا أعيش وأموت مثل جدى فى نفس المكان. فى المقابل أحببت الأرقام والمعادلات والحساب بشكل عام، قررت سرًا أنى سأصبح مهندسًا!
اتخذت القرار منذ سنوات دراستى الإعدادية، إلا أنى ترددت فى مصارحة أبى وأمى بهذه الرغبة المارقة الشاذة. من حُسن حظى تم إلغاء التشعُّب؛ وهو اختيار إحدى الشعبتين: «علوم» أو «رياضيات» فى نفس عام دخولى الثانوية العامة. تعين علىّ الاختيار بين «العلمى» أو «الأدبى» فقط. اخترت «العلمى» بالطبع، وأجّلت مواجهة والدى عامًا آخر لحين ظهور نتيجة الثانوية العامة. درجاتى فى الرياضيات وحساب المثلثات جاءت أعلى قليلًا من درجات الأحياء والكيمياء، ولكنى واصلت الصمت حتى اللحظة الأخيرة.
بينما اهتزت المدينة وقت وقوع الزلزال، رأيت أمى وهى تهرع للخارج مع مروة. فكرت مترددًا: هل حقًا علىّ أن أجرى للخارج؟
أساسات فيلَّا «أبوالمكارم» بالزمالك ثابتة؛ فلا داعى للقلق، نحن لا نعيش فى برج أو بناية آيلة للسقوط. وللحق، فقِطَع الدجاج التى أعدتها أمى طيبة المذاق للغاية. قلت فى نفسى إن الزلزال سيهدأ وستستقر الأرض بعد عدة ثوانٍ.
هناك فى استمارة التنسيق الخاصة بى كتبت فى خانة الرغبة الأولى: كلية الهندسة، جامعة القاهرة، بعدها كتبت: وليست لى أى رغبات أخرى.
انتفض أبى مندهشًا، فى البداية لم يستوعب الأمر، ظن أنى ربما أخطأت، أو أنها مجرد زلّة لسان. تحدثت معه بهدوء. الخطأ أنى أجّلت المواجهة للّحظة الأخيرة. راح أبى يحدثنى عن آماله بأن أُكمل مسيرة النجاح فى العائلة، وأن أكون أحد أهم العلماء. فحلم أبى الدائم هو أن أكون أستاذًا جامعيًا مرموقًا. يبدو أن مجموعى بالثانوية العامة «وهو رقم قياسى عائلى، لم يسبقنى إليه أحد السادة الأطباء فى العائلة» قد عزّز مكانتى تلك فى مُخيلته.
بعد ساعات طويلة من الحوارات، لم يهدأ أبى إلا بعد أن أقسمت بجهاز قياس الضغط الخاص بجدى شخصيًا، وبسُمعة مستشفى عمى، أنى سأكون أستاذًا جامعيًا كما حلم، عالِمًا وباحثًا، ولكن فى المجال الذى سأختاره. وعدته بأنى سأبقى على عهد العائلة، وسأنتمى لنفس المؤسسة العظيمة: «جامعة القاهرة»، ولن يهدأ لى بال حتى أصِل للكرسى الذى لم يصل إليه جدى ولا أبى: رئاسة جامعة القاهرة نفسها!
ومنذ ذلك اليوم، وضعت هدفى أمام عينىّ، قررت بذل الجهد والتفوق لأُبقى رأس أبى مرفوعًا عاليًا، وليظل دومًا وإلى الأبد.. فخورًا بى.
شرد عقلى أثناء وقوع الزلزال الذى ظل يراقصنى لثوانٍ، وعندما تعدّت المدة نصف الدقيقة تقريبًا، اتخذت القرار باللحاق بأمى ومروة فورًا، وما إن انتصبت واقفًا حتى هدأت الأرض تمامًا وتوقف كل شىء.
تجمدت مكانى للحظة للتأكد من ثبات الأرض تحت قدمىّ، ثم عاودت الجلوس مرة أخرى بهدوء، ملتقطًا قطعة أخيرة من دجاج أمى اللذيذ.
عادت أمى من الخارج مع مروة بعد دقائق، وظلت تحدق فى وجهى فى ذهول دون أن تنطق بكلمة واحدة. قطعتُ الصمت بتساؤل جاد:
هل هناك المزيد من قِطَع الدجاج بالمطبخ؟
مقطع من رواية: مع مرتبة الشرف
0 تعليق