المشردون فى شوارع القاهرة الكبرى وضواحيها، مشكلة اجتماعية خطيرة، تواجهها مصر منذ سنوات رغم جهود الدولة المصرية المبذولة للقضاء عليها، من خلال الحملات التى تقوم بها بعد المؤسسات القومية للقضاء على تلك الظاهرة لما تمثله من مخاطر وتهديد اجتماعى خطير، تلك الظاهرة التى تعانيها معظم المجتمعات فى مختلف الدول على مستوى العالم لا سيما وأنها تعد قنبلة موقوتة. الحدائق والميادين العامة وأسفل الكبارى وأنفاق المشاة ومداخل ومخارج السكك الحديدية ومترو الأنفاق وغيرها..
كل هذا وأكثر يرتادها المشردون الذين لا مأوى لهم وتعد الملاذ الآمن للنوم والراحة بضع ساعات بجوار الكلاب الضالة والقطط، حتى بزوغ شمس اليوم التالى ليهرولوا ما بين إشارات المرور وبعض الأرصفة باحثين عمن يحنو عليهم ببضعة جنيهات، للمأكل والمشرب، هكذا هى حياتهم اليومية. المشردون فى الشوارع بينهم كبار سن وأطفال وشباب ونساء، ورغم أن هناك جهات حكومية معنية بمتابعة حالاتهم ورعايتهم والبحث عنهم بين أروقة الشوارع لا سيما وأن هناك منهم المصاب بأمراض مزمنة وكذا بعض الأمراض النفسية، إلا أن تلك الجهات غضت البصر عنهم وتقاعست عن مهام عملها المنوط بها تنفيذه نحو هؤلاء البشر الذين حكم عليهم القدر باتخاذ الشارع مسكنا لهم، هذا الدور الذى لم تمارسه تلك الجهات. فى السطور التالية ترصد «الوفد» أوجاع سكان الشوارع.
مواطنون يعيشون تحت الأرض ويتقاسمون الطعام مع الكلاب الضالة وزارة التضامن الاجتماعى، التى من المفترض أن تكون الحامى الأول لأبناء هذا الوطن، غائبة عن هذه المشاهد المأساوية تمامًا، تترك الفقراء يواجهون مصيرهم وسط تكالب البؤس، وتغلق أذنيها عن صرخاتهم. وتبدأ الجولة فى شوارع عزبة عثمان بشبرا الخيمة، يعيش محمود رشاد، مصفف شعر رجالى، شاب يبلغ من العمر 37 عامًا، قصة مليئة بالألم والكفاح، ولد محمود فى عام 1988 ونشأ فى أسرة بسيطة، لكنه يواجه اليوم تحديات قاسية فى الحياة، حيث يعيش مع ابنه أحمد، فى نفس مستشفى النيل بشبرا الخيمة الذى يبلغ من العمر 13 عامًا، بينما يقضى ابنه الأكبر إسلام، البالغ من العمر 17 عامًا، حياته مع والدته المطلقة.
يحكى محمود، عن سنواته الأولى قائلًا: «نشأت فى أسرة متواضعة، وتلقيت تعليمًا أزهريًا متوسطًا، كنت متميزًا عن باقى أفراد أسرتى فى اللغة العربية والدين، لكن الظروف الاقتصادية حالت دون إكمال دراستى»، وكان والد محمود يعمل نقاشًا، بينما كانت والدته ربة منزل، لكنها اضطرت للعمل بعد إصابة والده بعجز كامل، يقول محمود: «بحثت والدتى عن عمل للقدرة على شراء طعام المنزل بعد مرض والده وكانت تعمل بلا كلل لتوفير احتياجاتنا، لكنها ظلت دائمًا السند الأكبر لنا». تطرق محمود إلى نقطة تحول مأساوية فى حياته: «والدتى توفيت عام 2016 فى حادث مؤلم بسبب أجراء عملية قلب مفتوح وكانت تعانى من الزهايمر، وهو ما جعلها غير مدركة لما يحدث حولها فى الشارع، وكانت فى طريقها لزيارة مقام السيدة زينب عندما صدمتها سيارة، فقدت وعيها وتوفيت فى الحال».
ويضيف محمود، فقدان والدتى كان صدمة كبرى لى ولأسرتى، فهى كانت عمود البيت، وكانت تعمل رغم مرضها لتضمن لنا حياة كريمة، ولم تكن وفاة الأم النهاية، بل بداية لمزيد من المعاناة، «والدى، الذى كان يعانى من مرض أقعده عن العمل لسنوات، توفى فى عام 2018 تركنا نواجه مصير «القطط والكلاب» وحدنا أنا وشقيقى عماد، وهربت شقيقتنا الثالثة وفاء من مساعدتنا على قسوة الحياة، أصبحت المسئولية كلها على عاتقى، ولم يكن لدى أى خيارات سوى مواجهة الواقع الأليم.
معاناة العمل ورفض أصحاب المحلات
يحكى محمود، عن محاولاته لإيجاد عمل قائلًا: «بحثت عن عمل فى العديد من المحلات التجارية بمنطقة شبرا الخيمة، لكن أصحاب المحلات كانوا يفضلون العمال القادمين من الأقاليم، السبب أن هؤلاء العمال ليس لديهم خبرة كافية، فيسهل استغلالهم أو التلاعب بهم، أما أنا، فكونى من أبناء المنطقة، يعرفون أننى لن أسمح بأن يتم استغلالى، هذا جعلهم يرفضون تشغيل شخص لديه خبرة ووعى بحقوقه». ورغم المهارات التى يمتلكها محمود، فإن ظروف الحياة كانت أقسى مما توقع، يقول: «أنا صنايعى حلاق وسائق، وكنت أكسب جيدًا فى فترات سابقة، لكن الظروف أجبرتنى على العيش فى الشارع مع ابنى أحمد، بينما يعيش ابنى الأكبر إسلام مع والدته المطلقة»، موضحًا حاولت الاستفادة من مهاراتى والعمل فى أى مجال، لكن الفرص كانت نادرة، والضغوط كانت أكبر مما أتحمل. وتابع محمود حديثه برسالة تحمل ألمًا وأملًا، «كل ما أريده هو فرصة لإثبات نفسى مجددًا، وفرصة أعيش بها حياة كريمة مع أولادى، لا أبحث عن الشفقة، لكننى بحاجة لدعم يعيدنى إلى الطريق الصحيح». صرخة من قلب المعاناة: عماد رشاد يحكى قصة الذل والقهر ومن جانب محمود يعيش شقيقه عماد رشاد فهيم محمد، 41 عامًا، حياة مليئة بالمآسى والتحديات، نتيجة ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة، لتتركه بين قسوة الماضى ومرارة الحاضر، وهو يحاول بشتى الطرق البحث عن مخرج كريم يعيد له بعضًا من كرامته المهدورة.
«غلطة عمر» كلفته سنوات من الذل
يبدأ عماد حكايته قائلًا: «أنا من مواليد 1984، كنت أعيش حياة بسيطة مع أسرتى فى شبرا الخيمة، فى عام 2011، انفصلت عن زوجتى بسبب مشكلات لا أريد الخوض فيها، لكنها كانت بداية النهاية، لدى ابنة اسمها وفاء، عمرها الآن 16 عامًا، لكنى لا أعرف عنها أى شىء منذ طلاقى». ويضيف بنبرة مختلطة بين الحزن والغضب: «ارتكبت أخطاء، نعم، لكنها لا تعنى أننى أُحرم من حقى فى العيش الكريم. يتحدث عماد، عن الجانب الآخر من معاناته قائلًا: «تعرضت لإصابات خطيرة نتيجة الأخطاء الطبية وحوادث الطريق المتكررة، ركبتى تعرضت للكسر، وأجريت عملية فى مستشفى حكومى، أصبحت رجلى طويلة والأخرى قصيرة، ذراعى اليمنى مليئة بالشرائح و10 مسامير، وذراعى اليسرى تحتوى على مفصل صناعى». وفى السياق ذاته أكد عماد، أن الإصابات لم تترك لى خيارًا سوى الاعتماد على الآخرين، حاولت الحصول على معاش تكافل وكرامة وبطاقة خدمات لذوى الإعاقة، دفعت 100 جنيه لمحاولة إتمام الإجراءات، لكننى لم أستطع المتابعة بسبب الظروف المادية المنهارة.
ورغم كل ما مر به، يصر عماد على أن يعيش بكرامة: «أخى الصغير يجمع البلاستيك من الشوارع ليعيلنا، نحن نعيش على الحلال. لم تتوقف المصائب عند هذا الحد، يحكى عماد عن وفاة والديه: «أبى توفى بعد مرض استمر لسنوات طويلة، ووالدتى رحلت بعد حادث أليم أثناء ذهابها لزيارة مقام السيدة زينب، هذه الخسائر كانت بمثابة القشة التى قصمت ظهرى، لم يبق لى سوى أخى الصغير الذى يكافح معى لنعيش يومًا بيوم وشقيقتى وفاء استعرت من وجودنا على قيد الحياة ودائمًا تتهرب من التواصل معانا». نداء استغاثة لمحافظ القليوبية عماد يوجه رسالة مليئة بالرجاء إلى محافظ القليوبية، المهندس أيمن عطية، قائلًا: «أناشدكم مساعدتى للحصول على باكية صغيرة فى حى غرب شبرا الخيمة، أريد فقط أن أعيش بالحلال، كل ما أطلبه هو فرصة لإثبات نفسى كأنسان وليس كالكلاب التى تأكل من القمامة وتنام أسفل الكبارى وفى الأنفاق». طالب عماد بحق الحياة، من خلال حديثه قائلًا: «عشت 41 عامًا فى ذل وقهر وفقدان أطفالى، كل ما أطلبه هو فرصة لأعيش بكرامة، أخطأت فى الماضى، لكنى أستحق فرصة ثانية تحتويها الرحمة، أريد فقط أن أعيل نفسى وأعيش بالحلال دون أن أكون عبئًا على أحد».
قصة عماد وشقيقه محمود، ليست مجرد سرد لمآسى شخص، بل هى انعكاس للمعاناة التى يمر بها آلاف الفقراء فى مصر، معاناته هى دعوة لكل مسئول وصاحب قرار للنظر بعين الرحمة إلى من فقدوا كل شىء، عسى أن يجدوا من يعيد لهم الأمل فى حياة أفضل. شقيقة تعيش مرارة العيش فى الشوارع: وعود إخواتها تتبخر والألم يزداد تحدثت هناء رشاد، 45 عامًا، مطلقة، من شارع التوحيد أم بيومى فى شبرا الخيمة، عن معاناتها اليومية فى حياة مليئة بالألم والصراع من أجل البقاء، تقول هناء، «حياتى مش سهلة أبدًا، مش بس بحارب علشان أعيش، لكن كمان بحارب علشان أشوف إخوتى يحسنوا حياتهم». تبدأ معاناة هناء، عندما طلب منها أخوها الأصغر، محمود، مبلغ 1600 جنيه للبحث عن شقة وترك الشارع، «فى ذلك الوقت، كنت قد حصلت على مبلغ صغير من إيجار منزلى، فبعت 1000 جنيه منها لمساعدته، كنت فاكرة إن ده حيكون خطوة إيجابية لحل مشكلته، لكن اكتشفت أننى كنت غلطانة».
وأوضحت هناء، أن وعود أخواتها ذهبت سدى، وأنها استمرت فى تقديم الدعم المادى لهم ولكن لم يكن هناك أى تحسن، «أخواتى بياخدوا منى فلوس باستمرار، لكن لحد دلوقتى مفيش أى تغيير فى حياتهم، أنا مش فاهمة ليه هم مش قادرين يطلعوا من الوضع اللى هم فيه؟ ليه مش قادرين يوقفوا التشرد ويلاقوا حل دائم؟ ده مش عدل». أما معاناتها الشخصية، فتستمر هناء فى سردها قائلة: «عندى انزلاق غضروفى، وعايزة أعمل عملية وأحتاج لعلاج، لكن مفيش فلوس علشان أقدر أعمل ده، مش شغالة فى وظيفة ثابتة دلوقتى، فقط بنزل أنضف شقق عند الناس علشان أقدر أجيب قوت يومى، وعلى الرغم من ذلك، مفيش أى تحسن فى حياتى». وعن معاناة ابنها البالغ من العمر 23 عامًا، الذى كان مدمنًا المخدرات، تقول هناء «ابنى كان بيتعاطى مخدر «البودر»، وبقاله عشر سنين مش قادر يوقف، دخل مصحة فى العباسية علشان يعالج نفسه، ورغم أنه هذا الشهر هو الوحيد الذى قرر فيه التوقف بعد رحلة علاج طويلة، إلا أن الشارع هو اللى علمه تعاطى المخدرات، وهو اللى علمه كل الحاجات الوحشة». وأعربت هناء، عن استيائها من عدم تقدم إخوتها فى حياتهم قائلة: «مش قادرة أفهم ليه إخواتى مش قادرين يوقفوا حياتهم عن كده، الصبر بدأ ينفد، وكل يوم بيمر من غير ما نرى أى خطوة إيجابية، مفيش أى تحرك حقيقى منهم تجاه حل مشاكلهم».
وأضافت، «المساعدات اللى بقدمها ليهم مش جايبة نتيجة، وكل مرة أديهم فلوس أو أعمل حاجة ليهم، بيرجعوا لنفس النقطة اللى كانوا فيها، أنا حياتى على باب الله، بنزل أنضف شقق عشان أعيش، لكن لما بيطلبوا منى فلوس تانية، مش قادر أساعد أكتر من كده». وأكدت هناء قائلة «أنا مش قادرة أعيش فى ظروف زى دى، ومش قادره أشوفهم فى نفس الوضع ده كل يوم، لو فى وعود كان المفروض ينفذوها، لكن لحد دلوقتى، الوعود كلها كانت كلام، مش شايفة أى تغيير، والدنيا قاسية، وأكيد كلنا محتاجين فرصة حقيقية علشان نخرج من الدوامة دى، لكن الوعود مش كفاية».
قصة شهد حميدة: حياة بين التشرد والإدمان وسط شوارع محافظة المنوفية، تحديدًا فى مركز السيد أبوشعرة، تنبثق مأساة شهد حميدو سيد بيومى محمد، فتاة فى السادسة عشرة من عمرها، شهد تعيش حياة قاسية، تركها والدها هى ووالدتها الستينية فى شوارع شبرا الخيمة، لتواجها مصيرًا مظلمًا مليئًا بالمآسى والمعاناة والادمان والتحرش الجنسى. أبويا رمانى وأمى فى الشارع تبدأ شهد قصتها بقولها، «أبويا رمانى أنا وأمى فى الشارع، وأصبحنا بلا مأوى، لا أحد يسأل عنا، لا أعمام ولا أخوال، أخى الأصغر مسجون منذ خمس سنوات، وأمى ترفض العودة لوالدى بسبب الضرب والمشاكل المستمرة، أمى تنام فى الشارع لأننا لا نجد مكانًا يؤوينا». تضيف شهد، بحسرة، «أعمل فى جمع الخردة من الشوارع، وأبيعها لأتمكن من شراء الطعام لى ولأمى، لم ألتحق بالمدرسة أبدًا بسبب المشاكل الأسرية التى عشتها منذ الصغر، اليوم، أنا أنام فى الشارع أكثر أربع سنوات، وأهرب من التحرشات الجنسية التى أتعرض لها باستمرار». كفاح من أجل البقاء شهد، التى تحاول مواجهة قسوة الشارع، تقول: «أنا أعمل 24 ساعة يوميًا فى جمع الخردة لتوفير الطعام، أمى كبيرة فى السن ولا تجد من يعولها غيرى، نعيش فى الشوارع ونعانى من الإهمال، أحيانًا أنام فى أى مكان عندما أكون متعبة، وكل ذلك بسبب غياب المأوى».
الهروب من الألم بصوت يحمل ألمًا عميقًا، تعترف شهد بأنها وقعت ضحية للإدمان، «بدأت أشرب مخدر البودر بسبب المتسولين اللى فى الشارع، أصبحت أشرب يوميًا وأجمع 150 جنيهًا من بيع الخردة لتلبية حاجتى للإدمان وشراء الطعام لأمى، أحاول الهروب من الواقع المرير، لكن الإدمان يسيطر على حياتى». وسط كل هذه المعاناة، تحمل شهد أمنية بسيطة، «نفسى أعيش حياة كريمة بعيدًا عن الشارع، كل ما أريده هو غرفة صغيرة تؤوينى أنا وأمى بدلًا من حياة التشرد والإهانة، والهروب من المتحرشين جنسيًا قبل فوات الأوان، أريد أن أترك الإدمان وأعيش كإنسانة طبيعية مثل باقى البنات». وجهت شهد نداء مؤثرًا، «لو تعبت أو حصل لى حاجة، إحنا بنعيش على رحمة ربنا، أحتاج مصحة للعلاج من الإدمان ومكان آمن لى ولأمى حتى نعيش حياة كريمة بعيدًا عن الإهانة، وجهت شهد رسالة لكل مسئول أن هناك فتاة صغيرة تعيش فى نفق مستشفى النيل بشبرا الخيمة، وأم مسنة تستحقان فرصة جديدة للحياة، بعيدًا عن الشوارع التى لا ترحم.
مواطنون بلا مأوى..
هل تنقذهم وعود رئيس الحى أم تستمر معاناتهم؟ داخل أنفاق شبرا الخيمة، يفترش عشرات الشباب الطرقات بحثًا عن أملٍ فى حياة كريمة، تتردد أصواتهم مطالبة بمصدر رزق يخرجهم من دوامة البطالة والتشرد، فى ظل أوضاع اقتصادية صعبة وضغوط يومية قاسية. هؤلاء الشباب، الذين افترشوا الشوارع بلا مأوى، يطالبون بفرصة عمل تضمن لهم حياة شريفة ومستقرة، محمود، شاب فى العشرينات من عمره، يقول بحسرة، «كل ما نريده هو مكان بسيط نعمل فيه بكرامة، نحن لا نطلب سوى حقنا فى الحياة والعمل». وفى سياق متصل خرج خالد العرفى، رئيس حى شبرا الخيمة بمحافظة القليوبية، بتصريحات توضح خطته لمعالجة هذا الملف الشائك، مؤكدًا أن الحى بدأ بالفعل فى حصر الباكيات القديمة التابعة للمحافظة بهدف رفع كفاءتها وإعادة توزيعها على المستحقين، قائلًا «نحن نعمل على حصر الباكيات المتوفرة وإعادة تأهيلها، إذا وجدنا عددًا كافيًا فى أماكن مناسبة، سنخصصها للشباب بعد استيفاء الإجراءات القانونية».
وأضاف «العرفى» أن هناك توجهًا لتطوير مناطق مثل شارع الخمسين وشارع 15 مايو، حيث يمكن إنشاء باكيات أو محلات جديدة بتمويل من ميزانية محافظة القليوبية، موضحًا «هذه المشاريع ليست مجرد حلول مؤقتة، بل تهدف إلى خلق فرص مستدامة للشباب لتأمين مصدر دخل كريم بعيدًا عن الشارع». وعلى الرغم من أن تصريحات العرفى بثت بعض الأمل فى نفوس الشباب، إلا أن الكثير منهم يشعر بالقلق من أن تظل هذه الوعود حبرًا على ورق، يقول حسن، أحد الشباب المفترشين فى الشارع، «ما نريده هو التنفيذ السريع، كل يوم يمر يزيد معاناتنا ويهدد مستقبلنا».
وتابع «يجب أن تكون هناك رقابة صارمة لضمان وصول هذه الباكيات إلى المستحقين فعلًا، فحصر الباكيات القديمة وتطويرها، بالإضافة إلى إنشاء أخرى جديدة، يمثل خطوة إيجابية، لكنها تحتاج إلى آليات واضحة وشفافة لضمان وصول الدعم لمن يستحق ويعانى من الفقر وعدم القدرة الكسب الحلال. فى مواجهة هذه التحديات، يناشد الشباب المسئولين سرعة التحرك لتخفيف معاناتهم فالعمل على إعادة تأهيل الباكيات وتوزيعها بإنصاف لن يكون مجرد حل لمشكلة بطالة هؤلاء الشباب، بل خطوة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية فى شبرا الخيمة. صرخة طفل شوارع بين ألم الفقر وقسوة الإهمال فى جولة ميدانية غير مسبوقة لمحرر «الوفد»، كانت العيون تشهد مأساة مستمرة فى شوارع القاهرة، حيث لا يزال آلاف الأطفال يعيشون فى ظلام اليأس والضياع، ولعل اللقاء مع الطفل سيف أحمد عبدالناصر، البالغ من العمر 12 عامًا، هو أصدق تجسيد لهذا الواقع المرير، يقول سيف بمرارة لا تنتهى «متسولو الشوارع أجبرونى على تدخين السجائر، ولم أستطع أن أرفض أو أدافع عن نفسى، الشارع هو ما دفعنى لهذا، بسبب الزهق والهم، إخوتى طردوا أمى وقالوا لها، «مالكيش دعوة بينا»، ثم تركونا وسافروا إلى الإسكندرية، وها أنا أعيش وحدى فى الشارع، مثل الكلاب أقضى طوال اليوم فيه، وفى الليل أنام عند جدتى فى كفر السلمانية بالجيزة». سيف ليس وحيدًا فى معاناته، فالقاهرة، والجيزة، والقليوبية مليئة بالأطفال الذين يتسولون ويعيشون على أطراف الشوارع المظلمة، يشير سيف، بألم يعجز عن وصفه، قائلًا: «أحصل على 100 جنيه فى اليوم بعد العمل لأكثر من 12 ساعة شحاتة فى الشوارع، وأشترى بـ50 جنيهًا طعامًا يكفينى أنا وأمى وجدتى، وأدخر الـ50 الأخرى لمرارة الأيام التى تعانى أمى فيها من نقص الدواء، وأتمنى أن ألتحق بالمدرسة وأصبح مثل الأطفال فى سنى، لكننى لا أستطيع، إذا توقفت عن العمل، ستموت أمى من الجوع والمرض». الطفل سيف يعيش بين الظلال، بين الرفض والعنف الذى يتعرض له كل يوم فى الشوارع، يسرد معاناته قائلًا: «أحيانًا يرفض الناس مساعدتى، وأحيانًا أخرى يعاملوننى بعنف أو يطردونني»، لم يتوقف الألم فى حياة سيف عند هذا الحد، بل شهد حادثة مؤلمة جعلت جروحه على وجهه تتعمق بشكل أعمق، عندما تعرض للاعتداء من ابن خالته: «كنت أجمع الكراتين من الشارع لبيعها، وكان هذا عملى الذى أعتمد عليه، ابن خالتى أراد سرقتها منى، وعندما رفضت، هاجمنى بـ«موس» وتركنى بجروح عميقة على وجهي». هذا ليس مجرد طفل يروى حكايته، بل هو رمز لآلاف الأطفال الذين يشبهون سيف فى حياتهم المدمرة. يقول سيف: «نفسى أتعلم وأبقى زى الأطفال التانيين، لكن مين هيساعدنى؟ كل ما أحاول أوصل لحد يرفضنى بسبب شكلى أو الظروف اللى بعيشها، حتى الجروح على وجهى أصبحت لعنة تطاردنى فى كل مكان». رغم كل هذه المعاناة، يبقى هناك أمل صغير فى قلب سيف، هو يجد فى جدته، رغم تقدم سنها، القوة التى تساعده على الصمود فى هذا الواقع القاسى، يؤكد سيف: «ستى هى الوحيدة اللى بتسأل علينا وبتحاول تساعدنا، رغم كبر سنها، هى كل حاجة لينا بعد ما الكل تخلى عنا، لكن حتى هى تعانى من الأمراض، وأخشى أن أفقدها يومًا ما».
رسالة سيف المليئة بالآلام والأحلام، هى صرخة فى وجه كل من يملك القرار، نداء لإنقاذ هؤلاء الأطفال قبل أن نفقدهم إلى الأبد: «أنقذونا قبل فوات الآوان، نحن أطفال نبحث عن فرصة للحياة، لا نريد أن نبقى أسرى للشوارع وأوجاعها، نريد أن نعيش بكرامة، نريد أن نكون جزءًا من المجتمع، لا على هامشه».
لكن ما يزيد الطين بلة، هو إهمال المسئولين، فى توفير فرص عمل للشباب، وهو ما يساهم بشكل مباشر فى تزايد أعداد الأطفال الذين يتسولون ويعيشون فى الشوارع، فى الوقت الذى تشهد فيه شوارع القاهرة تكدس الأيدى العاطلة، يغيب الحل والاهتمام الحكومى الذى يمكن أن ينقذ هؤلاء الأطفال من شبح الجوع والفقر. هل سيموت أطفالى من الجوع؟ قالت أم حبيبة،50 عامًا، بلا مأوى، وهى تجلس تحت الطريق الدائرى فى شارع بشتيل العمومى بمحافظة الجيزة، تفترش الأرض مع أطفالها الخمسة، وتحتمى بالبطانيات القديمة والمتهالكة «لا بيت، لا مال، لا طعام.. زوجى مريض، وأنا وحدى أصارع الجوع حتى لا يموت أطفالى بين يدي»، وبصوت يملؤه القهر واليأس، بينما تحتضن طفلها الصغير الذى بدا شاحب الوجه، ضعيف الجسد، يرتجف من البرد الشتاء القارص «أطفالى ينامون جوعى كل ليلة، يستيقظون وهم يتألمون من البرد، ولا أحد يهتم وأشعر بالعجز، لا أملك شيئًا أقدمه لهم سوى الدعاء بسبب تجاهل الحكومة».
وتابعت أم حبيبة، تمر السيارات أمامنا مسرعة، ينظر إلينا البعض، لكن لا أحد يتوقف، كأننا غير مرئيين وكأن استغاثتى ليست سوى صدى يتلاشى فى ضوضاء المدينة مؤكدة، أن حالتها لم تكن كذلك دائمًا، لكنها وجدت نفسها فى الشارع بعد مرض زوجها، وفقدت كل ما كانت تملكه من أمل، وقالت بحسرة: «لم يعد هناك مصدر دخل، ولم يعد هناك من يساعد، فاضطررت إلى اللجوء للشارع، حيث لا أحد يسأل ولا أحد يهتم». وانتقدت أم حبيبة، غياب أى دور لوزارة التضامن الاجتماعى، قائلة «أين مايا مرسى وزيرة التضامن الاجتماعى من مأساتنا؟ أين دورها فى رعاية الفقراء والمشردين؟ نحن نموت فى العراء، ولا أحد يهتم أليس لنا حق فى الحياة؟»، وبصوت مرتجف، وهى تضم أطفالها إليها «أنا لا أطلب الكثير، فقط سقف يحميهم، ولقمة تبقيهم على قيد الحياة.. هل هذا كثير؟ أم أن الفقراء لا حق لهم حتى فى البقاء؟«. بركة الغلبان فى شارع إمبابة الرياضي: هل من ينقذه من الموت فى العراء تحت نفق المنيرة بالجيزة، ينام رجل مسن على الرصيف، ملفوفًا بكيس بلاستيكى قديم كاتم أنفاسه، فى مشهد مؤلم بين الروائح الكريهة وعوادم السيارات الخانقة هذا الرجل، الذى أصبح يعرف بين سائقى التكاتك باسم «بركة الغلبان»، هو واحد من ضحايا الفقر والتجاهل، يعيش بلا مأوى، بلا أمل، بلا رعاية صحية. سائقو التكاتك فى المنطقة يتداولون اسمه كنوع من السخرية، ولكن هل هو مجرد «بركة غلبان» حقا؟ أم أنه صورة حية للواقع المظلم الذى يعيشه الكثيرون من دون أن يلتفت إليهم مسئول؟ لا أحد يسأل عن حال هذا الرجل، ولا تتوقف الحياة من أجل معاناته فى كل يوم، ينام فى نفس المكان، والناس يتجاهلونه وكأن وجوده جزء من المشهد الطبيعى، دون أن يتذكره أحد. وفى ظل هذا الواقع المأساوى، لا يبدو أن هناك أى اهتمام من محافظ الجيزة، عادل سعيد إبراهيم، تجاه هؤلاء المواطنين الذين يعانون فى صمت، فلا يظهر أى تحرك من جانبه لمطالبة وزارة التضامن الاجتماعى بالتحقيق فى ظروف هؤلاء المشردين، ولا تظهر أى جهود من أجل تحسين حياتهم أو توفير المأوى والرعاية اللازمة لهم. «بركة الغلبان»، رغم الاسم الذى يطلق عليه، هو إنسان له حق فى الحياة والكرامة ولكن فى ظل الإهمال الرسمى والمجتمعى، يبقى سؤاله معلقًا فى الهواء، هل سيجد من ينقذه قبل أن ينقض عليه الموت؟
0 تعليق