بيان الرابعة فجرا والصارخون في البراري

مكة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
ينام البشر ويستيقظون على صدمة جديدة. العالم أصبح متوحشا. بعض المجانين باتوا يحملون مشرط محو الخرائط. هناك من يريد إلغاء الحدود، ومعها الجموع. مؤسف أن يجهل بعض ساسة العالم مفهوم ألا شيء يعدل الأرض، وأن الوطن لا يغني عنه وطن بديل.

لا يعير بعض زعماء العالم اهتماما لإيمان بعض الشعوب بحق الانتماء للوطن، وأنه - أي الانتماء - عامل كبير خلق أرضية الموتى. ولم يدركوا بأنه بين خريف ماض وخريف مقبل، يكتب عمر إنسان في بقعة من العالم اسمها فلسطين، بين أسر أو قتل أو تهجير.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من ضمن تلك الجوقة السياسية، لم يضع أدنى اهتمام للإنسان في قطاع غزة. أراد تهجير البشر. قدم فكرة لا يقبل بها إنسان يملك ذرة من عقل. وفتح من خلال تلك التصورات، بلاده على شوارع العالم. وألغى كل المفاهيم الإنسانية والقوانين والأعراف الدولية.

تسبب بصدمة كبرى داخل وخارج أمريكا. يريد تولي السيطرة على قطاع غزة، وتفكيك القنابل غير المنفجرة الخطيرة – حسب تعبيره -. ويسعى لتطوير تلك "القطعة"! ويوجد آلاف الوظائف. وينوي تحويلها لشيء يمكن للشرق الأوسط أن يفخر بها. بل إنه بدا حالما أكثر من الطبيعي، حين كشف عما بداخل مخيلته، بأن قطاع غزة المدمر سيكون موطنا لشعوب العالم.

في الحقيقة الأمر يدعو للضحك، لكنه من جهة مقابلة يفتح أبواب القلق، لماذا؟ لأنه من شخصية لا يمكن التنبؤ بها، ولا بردود أفعالها. لكن ثمة ما يقود للنظر إلى الشهية التوسعية الترامبية. كيف؟ بالعودة قليلا إلى الوراء، واستذكار أنه ما أن تبوأ منصبه، إلا وطالب بضم كندا لبلاده؛ واعتبارها الولاية رقم 51. ماذا بعد؟ تهديده باحتلال قناة بنما، بالإضافة إلى جزيرة جرينلاند، التي تعد جزءا مستقلا من الأراضي الدنماركية.

أتصور أن تلك الأفكار تعود للميكافيلية الترامبية، التي لا ترى جدول الزمن المرسوم، وتلغي العمل في إطار الوقت والتاريخ، بسبب تعاظم القناعة بأنه بإمكان الرئيس أن يصنف نفسه كمنقذ لأمريكا، وأن كبرياء بلاده تجسد بين يديه، كونه بطلا لا يخسر، وأن الجميع سواه أغبياء.

وهذا يفتح النافذة لسؤال، ما هو؟ كيف تجرأ ترامب على تقديم بعض من خياله، ورأى أن فلسطين برمتها قطعة - كما قال في تصريحاته - معروضة للبيع في مزاد علني، بموجب عقد لا يملكه إلا هو، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي كان يجلس إلى جانبه وقتذاك، وبدت على محياه أعرض ابتسامات القبح والخسة، بعد أن دمر القطاع ونسفه عن بكرة أبيه!. الجواب: لا أعلم.

المهم، سأدخل لصلب قصتي هذا النهار. فكل ما سبق عبارة عن مقدمة. فقد أخذ ترامب على عاتقه القول إن السعودية تريد السلام، ولا تطالب بدولة فلسطينية. وهذا يقود لشيء من التدبر، وبالتالي البحث عن إجابة سؤال، لماذا السعودية حاضرة في قواميس جميع رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية؟ في الحملات الانتخابية، وحشد المؤيدين، والأوقات العصيبة واللحظات الحرجة؟ أتصور أنهم مهووسون بالسعودية. ولا تفسير للأمر غير ذلك.

وقتها انهمك العرب بالتفسير والتحليل. وتوقع ترامب أن حديثه سيمر مرور الكرام. بنى تفسيراته على علاقته وصداقته مع المملكة. ربما تغافل بأن لدى الرياض خطوطا حمراء لا يمكن تجاوزها من قبل كائن من كان.

وبلغه الخبر اليقين وهو في مكتبه البيضاوي. قالت الرياض في بيان صدر عن وزارة الخارجية، إن موقف المملكة من قيام الدولة الفلسطينية راسخ وثابت لا يتزعزع. وأرجعت ذلك لتأكيدات أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بشكل واضح وصريح لا يحتمل التأويل بأي حال من الأحوال، التي شدد فيها بأن المملكة، لن تتوقف عن عملها الدؤوب في سبيل قيام دولة فلسطينية مستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، وأنها لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل دون ذلك.

وفي ذلك البيان جملة من الأهداف العميقة التي يجب على صانع القرار الغربي النظر لها واستيعابها. أولا: نسف كلي لرواية الرئيس الأمريكي. ثانيا: رفض أن تكون مواقف المملكة مستباحة من قبل أي أحد، سواء دولة كبرى أو صغرى. ثالثا: تأكيد على ثبات السياسية السعودية، التي ترفض جملة وتفصيلا كل أشكال الابتزاز السياسي. رابعا: ذودها عن قضايا الأمة، مهما كلفت من قيمة سياسية.

وكان لموقف بلادي تبعات، أهمها أن الدبلوماسية الأمريكية نحت منحى التبرير والتهدئة، إذ حاول وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، تبرير أن رئيسه قدم مقترحا يستدعي خروج سكان غزة مؤقتا، وأنه يستهدف إزالة الركام، وتنظيف المكان، وفق خطوة غير معادية.

إن العالم صم آذانه عن أصوات آلام الجروح الفلسطينية. وكثير منهم عزز الإطار التبريري الذي ساقته تل أبيب، لقتل البشر من باب الدفاع عن النفس.

يجب أن تستعد دوائر القرار العالمي لسماع الصوت السعودي العالي، الذي رفض إلغاء الحق وقبول الفلسطيني بالمذلة. واعتياده على أن كل الاتجاهات في بلاده تقود إلى الموت.

فلا شيء للفلسطيني أكثر من الأرض، تشبث بها تشبث الطفل بأمه، وصرخ وكأن في جوف روحه أملا لا يريد أن ينطفئ. ومن أراد أن يفهم أكثر عليه العودة لاستماع بيان الرابعة فجرا.. ولأصوات الصارخين في البراري..

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق