دائماً ما يجري الحديث عن الاقتصاد الوطني، وكيفية تنويع مصادر الدخل، والبحث عن مداخيل أخرى تعزز الناتج الوطني، ونسمع الكثير من الشروحات والأحاديث، فيما يبقى الجوهر شبه غائب، إما نتيجة الاستسهال، أو لغياب الرؤية الصحيحة، خصوصاً في ما يتعلق بدورة رأس المال، ومعالجة الخلل فيها، لأنها هي الأساس في التنمية.
كل هذا يبقى دون جدوى إذا لم تنفتح حنفيات الإنفاق المدروس، فحين تقفل تلك الموارد يبدأ الاقتصاد بمراكمة العجز إلى أن يصل للانكماش، وهذا يرتد سلباً على المجتمع، كما يؤدي إلى انخفاض الناتج الوطني، فيما الصحيح أن تعزيز الاقتصاد يقي الدولة من الأزمات، خصوصاً إذا كانت هناك حنكة في تدوير رأس المال.
في هذا الشأن، ربما تفيد القصة الآتية في فهم كيفية جعل الإنفاق ينمي اقتصاد الدول، وهو ما يسمى التيسير الكمي.
يُروى أنه في بلدة صغيرة، تبدو شبه مهجورة مثل غيرها من المدن التي تمر بظروف اقتصادية صعبة، إذ الجميع غارق في الديون، ويعيش على الاقتراض، يأتي فجأة سائح إليها، ويدخل الفندق الوحيد المتواضع فيها، ليحجز غرفة، وأول ما فعله أنه وضع 100 دولار على طاولة الاستقبال، ثم صعد لتفقُّد الغرف في الطابق العلوي لاختيار المناسبة منها.
في تلك الأثناء، استغل صاحب الفندق الفرصة، وأخذ المئة دولار وذهب مسرعاً إلى الجزار ليدفع دينه، فيما الأخير أخذ المبلغ وذهب إلى تاجر الماشية ليدفع باقي مستحقاته عليه، وذلك بدوره أخذ المئة دولار، وذهب بها إلى تاجر العلف لتسديد دينه، بينما الأخير ذهب إلى سائق الشاحنة التي تحضر العلف من بلدة بعيدة.
سائق الشاحنة أسرع إلى الفندق حيث يسكن عندما يكون في البلدة ليسدد ما عليه، وأعطى صاحب الفندق المئة دولار لتسديد دينه.
حينها نزل السائح من الطابق العلوي، وفيما لم يجد الغرفة المناسبة، أخذ المئة دولار مرة أخرى من مكانها على الـ"كاونتر"، وعاد من حيث أتى، وبذلك سدد الجميع ديونه.
في الأعراف الاقتصادية يسمى ذلك كما أسلفنا التيسير الكمي، فالمال عاد إلى السائح، الذي هو الدولة، وهكذا الأموال تعود عبر دورتها إلى المنبع، وبالتالي، تكون قد عززت دورتها المالية من جهة، وأنعشت الاقتصاد، وزادت الناتج الوطني، بعيداً عن الحسد والشح.
هذه القصة رمزية مبسطة، إلا أن الدول تعمل على المنوال نفسه، فإذا ابتليت بسوء التقدير والإدارة، عندها تقع في العجوزات، لأنه ليس لديها خبراء يعرفون كيفية إدارة رأس المال.
في معظم الدول يجري تشجيع الإنفاق على المشاريع، وكذلك من أجل رفاهية المواطن، وبناء شراكات مع مؤسسات دولية، أو دول، لتعزيز الاقتصاد الوطني، وبهذا تستقر الدول، عبر مشاريع مربحة ومثمرة.
الأسبوع الماضي، استقبل صاحب السمو الأمير، بحضور سمو ولي العهد، رئيس مجلس الإدارة الرئيس التنفيذي لشركة "بلاك روك" لاري فينك، وشدد سموه خلال الاستقبال على أهمية دعم الفرص الاستثمارية والاقتصادية، وضرورة خلق بيئة تنافسية تعزز التعاون الستراتيجي مع الشركات الأجنبية، وتنويع القاعدة الإنتاجية الهادفة إلى نقل المعرفة وتوطينها، واستقطاب رؤوس الأموال للمساهمة في دعم الاقتصاد الوطني، وتنمية رأس المال البشري الكويتي.
كذلك أعلن في اليوم نفسه أن أصول الصندوق السيادي تعدت تريليون دولار، وبالتالي فإن ذلك يدعو إلى التفاؤل إذا كانت خطة لخلق بيئة صحية للاقتصاد الوطني، تقوم على تعزيز الإنفاق على المشاريع أكانت الخدماتية، أو الترفيهية، خصوصاً تلك المنتجة، عبر مساعدة الصناعة في التخلص من العوائق الموروثة من الحقبة السابقة، وكذلك تشجيع الزراعة في سبيل الاكتفاء الذاتي.
فإذا كان السعي إلى محاربة الفساد قد أتى أُكله، ولا تزال الخطة تسير وفق ما هو مرسوم لها، فهذا أمر جيد، إلا أن ذلك يحتاج إلى المزيد من الشفافية، أولاً، ثم فتح حنفيات الإنفاق، لأنها تحيي الجسد المنهك، فحالياً نسمع عن الكثير من المشاريع التنموية، وقرب تنفيذها، وبعضها من دولة إلى دولة، فيما الأخرى مع شركات عالمية، وفي الوقت الذي يحكى عن قرب إقرار قانون الدين العام، وهذا الأخير لن نحتاج إليه، فالمال السيادي تعدى تريليون دولار.
في المبدأ، أن ذلك جيد، لكن الأهم هو توظيف جزء كبير من المال السيادي في المشاريع الوطنية، لأن ذلك يعني، كما يقول المثل الشعبي، "دهنا في مكبتنا"، وهذا يخدم الناتج الوطني على المدى البعيد، ويمنح الاقتصاد الوطني الانتعاش، لا سيما أن أغلب المشاريع ستكون مدرة للأموال، أكان في الرسوم التي تُجبى منها، أو الضرائب المنوي إقرارها.
إن توظيف المال السيادي داخل الدول معمول به في غالبية العالم، لأنه يزيد من متانة الاقتصاد، وأيضاً يرفع مستوى دخل الفرد، كما أنه ينجي الدول من الأزمات، أما تلك التي تقفل حنفيات الإنفاق، فيشيع فيها الفساد، وتزداد فقراً، وقديماً قالوا: "الفقر سبب كل علة"، فيما يقول فقهاء الاقتصاد الازدهار هو الاستقرار.
0 تعليق