هذه الاعتبارية المتكررة سنويا جعلت من رمضان مدرسة للتأمل والتجديد والتغيير، والشأن المهم هنا أن هذا القالب الاعتباري يمكن الاستفادة منه بأن يكون لنا قوالب شخصية اعتبارية أخرى موجودة على مدار السنة، نستلهم فيها التوافقية مع السنة الكونية في تكرار القالب الرمضاني الاعتباري السنوي، وهدفها ضمان التوازن والاستمرار في النمو والتطور الشخصي.
الحياة ليست معادلة من الدرجة الأولى يسهل تحقيق توازنها، بل هي معادلات الله أعلم بمدى تعقيدها، ويمكن تلمس هذا التعقيد في الإنجازات والإخفاقات، والصعود والهبوط. فالوقفة الروحية التي تتلازم مع رمضان كل عام تحكي لنا أهمية وجود أيضا وقفات زمنية أخرى شبيهة في جميع المسارات، مثل العلاقات الشخصية وتقييم الذات في مدى التفاعل والارتقاء، هل لنا حظ في الدعم والتحفيز؟ ما مدى مقياس التأثير الإيجابي؟ كذلك في الجوانب النفسية والجسدية وجودة الحياة الشخصية وارتباطها بالعادات، وكذلك التخطيط الشخصي من حيث الأهداف المرسومة ومدى التقدم فيها بعيدا عن الوعود والأماني المسوفة. وكذلك في المسارات المهنية من حيث ماذا كان، وأين أقف، وماذا سيكون، كضمانة بألا يكون هناك انجراف في دوامة الروتين البعيد عن التقدم النوعي.
وكما أن رمضان منتظم في تسلسله الشهري في السنة وليس عشوائيا، كذلك أيضا هذه الفترات الاعتبارية سترتفع جودتها عندما يكون تصميمها الزمني ليس عشوائيا أو مجرد ردات فعل لأحداث حياتية مختلفة. وذروة نضج هذه الفترات الاعتبارية ليست محصورة في تحديد وقتها الزمني وانتظامها، وإنما في جدية التعامل معها والالتزام الكلي قدر الاستطاعة في تنفيذ مخرجاتها.
تجد مثلا في رمضان الكثير يشعر برغبة في الإقدام الإيجابي والتحسن، وبمجرد انتهاء رمضان يشعر بتراجع هذا الإقدام وهذه الرغبة، وأعتقد أن جزءا كبيرا وراء هذا الأمر يعود إلى مسألة الجدية والالتزام بثمرات التغيير العملية.
وكما أن الصيام يعلمنا الانضباط والإدارة النفسية والسلوكية، وأنه ليس مجرد امتناع عن الطعام، كذلك يجب أن يكون هذا السمت العام لكل تلك الفترات الاعتبارية التي نضعها لأنفسنا.
كما أن الحياة من طبيعتها التغيير، وهو الثابت الوحيد في الكون، وأيضا هي ليست حالة سباق دائم إلى الأعلى، فالإنسان يمر بترددات الضعف والقوة، وحالات الإقبال والإدبار، والاعتبارية الحقيقية لا تعني أبدا الركض خلف المثالية والكمال المستمر، وإنما المحاولات المستمرة في أن تكون ترتيبات التوازن تمضي في مساراتها بين الطموح والرضا، وبين العمل والراحة، وبين السعي والتأمل... إلخ.
لذلك، المحطة الاعتبارية التي تكون برمجتها فقط على الإنجاز سيكون ذلك أكبر مهدد لها في تواجدها بشكل دوري، فالنجاح لا يقاس فقط بالإنجازات، بل لا بد أن يضاف إليه تلك العدسة المجهرية التي تراقب أهمية قدرتنا على الاستمرار دون إنهاك، وإن حصل شيء من الفتور المؤقت، نتعامل معه بأفضل طريقة ممكنة دون جلد للذات، فمن طبيعة النمو والصعود أنه ليس مسارا معبدا لا عوج فيه، بل هو مسارات ذات طابع موجي ومتقلب، وصمام أمان المسير هو المرونة والصبر. وهذه العملية تتجلى معالمها عندما لا تتحقق الأهداف في كل مرة، وتعاد كرات المحاولة في المحطات الاعتبارية القادمة.
رمضانك مبارك، وكل عام وأنت بخير وفي ونمو وازدهار.
fahdabdullahz@
0 تعليق