الكاتب والروائي السوري عيسى الشيخ حسن يستعيد ذكريات زمان: صيام الطفولة كان مجهداً مع أعمال الفلاحة في ظل الحر

العربية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

رواياتي وكتبي وثّقت مشاهد من رمضان بالريف السوري
تعلمنا من الصيام ثقافة الانتظار مع الأذان

 

يستعيد الكاتب والروائي السوري عيسى الشيخ حسن، ذكرياته الأولى مع الصيام، والتي تعود إلى خريف عام 1974، عندما خاض التجربة لأول مرة وسط أجواء أسرته وإمام المسجد. وتحدث عيسى الشيخ لـ « العرب» عن كيف كان الدعم والتشجيع حافزين له، وكيف واجه صيام الصيف الشاق خلال سنوات لاحقة، خاصة أثناء الأعمال الفلاحية. كما تحدث عن أجواء الإفطار، وعادات تبادل الأطباق بين الجيران، مشيرا إلى أن أهم ما كان يميز الشهر الفضيل في سوريا هو «عزيمة رمضان» وهي اتفاق غير معلن بين أهل الحيّ على إعداد فطور عام لأهل الحيّ، وهو ما يشبه وليمة مصغّرة. وكشف عن تأثير رمضان على إنتاجه الأدبي، خاصة في رواياته وكتبه التي وثّقت مشاهد من رمضان الريف السوري، مؤكدا أن رمضان، بالنسبة له، لم يكن مجرد عبادة، بل تجربة إنسانية وإبداعية عميقة. وإلى نص الحوار:

◆ كيف كانت تجربتك الأولى مع الصيام؟ هل تتذكر تفاصيل ذلك اليوم؟
¶ كنت في التاسعة، حين صمت لأوّل مرّة، خريف عام 1974، كان النهار طويلًا، نحو 15 ساعة في اليوم، وكنت قبل ذلك قد ختمت القرآن الكريم (قراءة وليس حفظًا) ولازمت أبي إمام المسجد، وما أن جاء رمضان ورأيت  حفاوتهم به، واستعدادهم له، حتى شوقني ذلك إلى العزم على هذه التجربة الرائعة.
في اليوم الأوّل ترى جميع الناس من حولك يشجعون الصائم الجديد، حفاوة الجمهور باللاعب الناشئ في أوّل مباراة له مع المنتخب، وأسعدني تكاشفهم في مسائل الجوع والعطش، والأطعمة التي تعطّش في السحور، والأخرى التي تضمن للصائم ألّا يجوع. وكان أبي يشفق عليّ، لمحبّة خاصّة كان يكنّها لي، لكنه لمّا رأى من حماستي شجعني، ولم تكن الحياة برفاهية هذه الأيّام، ولكنّهم التمسوا لنا ما «تبتلّ به العروق» من أشربة ذاك الوقت: العرق السوس، وقمر الدين، والتمر الهندي، واللبن الرائب، وأشربة الفاكهة المعدّة من منكّهات وملوّنات، فنميل إلى الأشربة ولا يبقى مكان للطعام.

«ندرس العدس» على «الجرجر»
وأضاف الشيخ: صيام الصيف كان مجهدًا، وبخاصة بعد العشر الأولى، حين يفقد الجسم مخزونه من الطاقة، وفي وقت تكون الأرض في حاجة إلى قوة العمل، فيكون الصيام مجهدًا، ولكنّني في ذلك العام صمت رمضان كاملًا، وأظنه كان ثلاثين يومًا كاملًا.
ومع تقدّمه إلى الأمام عامًا بعد عام، أدركناه في الصيف، مع الحرارة الشديدة، وطول اليوم، وأعمال الفلاحة، ولا أنسى يومين من تلك الأيام، أولهما في أغسطس 1983 حين كنّا صائمين، ونحن «ندرس العدس» على آلة الدرس القديمة «الجرجر» أو النورج، وقد تناوبت وأخي الأصغر «الشيخ موسى» على وضع العدس المكسّر أمام النورج، ثمّ الهروب إلى الظلّ، حتى استوفينا العمل مع أذان الفطور. والثاني في الصيف التالي، وكنا ننقل القش في الضحى ونحن صائمون.
في الضحى ترسل الشمس أشعتها أقوى من أي وقت آخر، ولم يكن متاحًا لنا الرجاد (نقل القشّ) إلّا ذلك اليوم. عدنا إلى البيت قبل الظهيرة، وقد بلغ العطش مبلغه، وطلبت مني أمّي أن أفطر. سحبت الماء من الدلو، ووضعت جرعة في فمي، وسرعان ما بصقتها، وأكملت. يمكن القول إنّ هذا الصراع الذي دام ثواني معدودات من أهمّ الصراعات التي عشتها صغيرًا.

ثقافة الانتظار
◆ كيف كان شعورك عند سماع أذان المغرب لأول مرة بعد يوم طويل من الصيام؟
¶ وإن تعلمنا شيئًا في رمضان فهو «ثقافة الانتظار» انتظار الأذان، وكان مسجد القرية يتوسطها، ولكنّ اللهفة لسماع الأذان تجعلنا نطلب من الصغار أن يقفوا في الحوش، ولا يحتاج الأمر أحيانًا لذلك، فالحاج عيسى رحمه الله، يفتح زرّ التشغيل قبيل الأذان فتسمع خشخشة الجهاز، قبل أن يصدح صوت الشيخ «الله أكبر» وما ان يصل إلى الشهادتين إلّا وكان القوم قد شربوا مع العبارة الأثيرة «صمنا لوجه الله، وأفطرنا على ما قسم الله». وكان الشعور «المركّز» بالوقت، يجعل دقائق الانتظار بطيئة، وكان سماع صوت المؤذن يمنحنا نشوة الظفر والفوز في مسابقة الاحتمال اليوميّة، ومكافأة ذلك مكافأة فورية بأشربة مختلفة.
 
عزيمة رمضان
وتابع: وكان من جميل تلك الأيّام «الطُّعمة» التي يتهاداها أهل الحيّ، فترى الأطفال غادين رائحين بصحون صغيرة تحمل شيئًا من الطبق الرئيسي، وربّما وجدت على المائدة نحو عشرة أطباق مختلفة إلى جانب طبق اليوم، ولكنّ التقليد الأهمّ الذي عشته آنذّاك هو «عزيمة رمضان» وهي اتفاق غير معلن بين أهل الحيّ على إعداد فطور عام لأهل الحيّ، وهو ما يشبه وليمة مصغّرة، تصطفّ فيها على مائدة الإفطار لحوم الدجاج والضأن والماعز، في قصعات كبيرة فوق الرزّ أو الثريد، وربّما وجدت سيّدات البيت قد اجتهدن في صناعة الأطباق السوريّة الأخرى، فإن كان رمضان وافى في الشتاء فإنك سترى «الكُبّة» أو «الصينيّة» وإن جاء في الصيف، فلا مناص من تصدّر «المحشي».
وفي رمضان ينصرف الناس إلى قراءة القرآن، فتراهم يتساءلون: «أين وصلت؟ وكم ختمة ختمت؟» وتراهم يواظبون على التراويح، وكان الحاج عيسى رحمه الله يصلّيها عشرين ركعة، باستراحة قصيرة كلّما صلّى أربع ركعات، مصلّيًا فيها على الرسول صلى الله عليه وسلّم، ومترضّيًا على الخلفاء الأربعة تواليًا، ونحن نجالد القيام وقراءة الحاج البطيئة، ونصبّر أنفسنا حتى نصل الترضّي عن أبي بكر، فعمر، وما أن نصل إلى الترضّي على عثمان حتى نشعر أنّنا قطعنا أكثر من ثلثي الشوط، فإن فرغنا من التراويح والوتر، نوى الشيخ فينا ونحن ننوي معه «نيّة جماعيّة»: نويت على الصيام غدا، من شهر رمضان أتى، إيمانًا واحتسابًا لوجه الله الكريم.
 
سرديات رمضان
◆ برأيك كيف عالج الأدب هذه المراحل من ذاكرة الطفولة؟ وماذا عن إنتاجك الأدبي عن شهر رمضان ؟
¶ كتبت كثيرًا من المقالات عن رمضان، وفي السرد صوّرت ممّا احتفظت به الذاكرة في روايتي «العطشانة» وكذلك صوّرت رمضان في الريف السوري في «خربة الشيخ أحمد» ولكنّي قبل عامين أصدرت كتابي «سرديات رمضان» وفيه صور من الشهر الفضيل في حياتي عبر الشخوص والأمكنة والآيات الكريمة. وما زال رمضان يثير فينا مكامن الإبداع.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق