البحث عن كلمة واحدة تجمع حروفها معانى الأمل والخوف والفرح والقلق والترقب أمر صعب، كذلك المشهد فى «سوريا» الآن، خليط لا يمكن التعبير عنه بكلمة واحدة، حالة من الاستقطاب الحاد والمتطرف يريد أصحابها الإجابة عن السؤال مع أو ضد؟ بكلمة واحدة، متجاهلين تعقيدات المشهد، متغافلين عن رؤية الكادر الأوسع وزوايا الصورة المتعددة، مزيج من خطوط متقاطعة تتداخل فيها فرحة الحاضر وآمال المستقبل مع شبح الماضى القريب بسياساته، وتتشابك معها خطوط الماضى البعيد المرسومة على خريطة «سايكس- بيكو» 1916، تلك الخريطة الاستعمارية التى قُسِّمت بلاد الشام وفقًا لأولوياتها ومخططاتها، واعتبرها البعض الخطيئة الكبرى والنكبة الأولى لبلاد العرب، لنقف الآن مجددًا على أبواب الترقب والحذر من أن تصير«سوريا» قربانًا تنهشه أنياب ومطامع قوى مستعدة لرسم خطوط جديدة على الخريطة وفقًا لمصالحها وأهدافها.
دهشة السقوط
عشرة أيام وقف فيها العالم حائرًا مندهشًا أمام سقوط «بشار الأسد» وانسحاب قواته أمام فصائل المعارضة بقيادة «هيئة تحرير الشام» وقائدها «أحمد الشرع» المعروف بـ«الجولانى»، عشرة أيام فقط سيطرت فيها المعارضة على حلب وحماة وحمص ودمشق دون معركة واحدة أو مقاومة تذكر من «بشار وحلفائه»، لينتهى نظام عائلة «الأسد» بعد 54 عامًا، شهدت خلالها المعارضة قمعًا وحشيًا فى حياة الأب والابن، وسياسات كان نتاجها حربًا أهلية استمرت أربعة عشر عامًا بداية من 2011، خلفت وراءها أكثر من 300 ألف قتيل و5.4 مليون لاجئ، و6.9 مليون نازح، هذا السقوط كان فاضحًا لهشاشة النظم القمعية وشاهدًا عليها، وواعظًا لتلك السياسات التى تبنى عروشها على نعوش أبنائها، محذرًا من دوامة سقوط لا مفر منه ولا نجاة فيه.
صراعات ومصالح
المتابع للمشهد السورى، ويجب على الجميع أن يتابع، يعرف أن الواقع هناك يشير إلى صراعات قوى دولية لن تسمح لسوريا الشقيقة بإعادة البناء أو الاستقرار إذا غابت مصالحها أو تم تجاهلها، ومن ثم يزداد الواقع تعقيدًا لاتباط تلك القوى الخارجية بدعم واستقطاب وربما رسم سياسات قوى المعارضة التى تسلمت الحكم، وفرَّ أمامها «الأسد» هاربًا مكتفيًا بالحصول على لقب لاجئ، ليذوق مرارة مصير الملايين من أهل سوريا، تاركين وطنهم جبرًا وقهرًا والدخول فى صراع مع أمواج البحر، بحثًا عن فرصة أخيرة للحياة.
نحن أمام قوى وصلت إلى السلطة، ولا تزال مقاليد الأمور فى يد من دعمها وشارك فى بنيانها ورسم لها الأهداف والسياسات، ومن ثم التوافق بين تلك الفصائل الداخلية مرتبط شرطيًّا بموافقة تلك القوى الخارجية وتوافق مصالحها، فنجد تركيا تدعم «هيئة تحرير الشام» والفصائل السنية التى تسيطر على وسط سوريا، والممتدة من الحدود الشمالية مع «أنقرة» إلى الحدود الجنوبية مع الأردن، وتدعم الولايات المتحدة «القوات الكردية» التى تسيطر على أجزاء فى شمال شرق سوريا على الحدود مع تركيا فى الشمال والعراق فى الشرق، وتنتظر اللحظة التى تتمكن فيها من الاستقلال وإعلان دولة للأكراد، هذا الدعم الأمريكى يأتى وسط ترقب تركى يرى أن تمكين «الأكراد» تهديدًا لسلامة أراضيه.
يوضح هذا الصراع وتضارب المصالح «التركى الأمريكى»، تصريحات «أنتونى بلينكن» وزير الخارجية الأمريكى، السبت الماضى، بأن بلاده أجرت اتصالًا مباشرًا مع «هيئة تحرير الشام» دون تحديد كيفية هذا الاتصال، على الرغم من تصنيفها منظمة إرهابية، وذلك فى إطار السعى الدولى المشترك لانتقال سلمى للسلطة، وأشاد «بلينكن» خلال تلك التصريحات، وهذا هو المهم، بقوات سوريا الديمقراطية التى يقودها الأكراد.
فى اتجاه موازٍ لمصالح القوى المنتصرة والمنتظرة تسديد الفواتير والحصول على المكاسب، نجد حلفاء «بشار» «روسيا- إيران» فى حالة من الترقب المحفوف بالهزيمة، ترتبط بالفصائل العلوية المؤيدة للنظام الهارب، وربما ما زالت تحتفظ بتلك الورقة فى ملفات الصراع لاستخدامها وقت الحاجة، فلن تسمح روسيا التى سقط جزء كبير من هيبتها ومكانتها الدولية، ولو مؤقتًا، بسقوط نظام «الأسد» باستمرار تلك الهزيمة، لن تنسحب تلك القوى من ساحة المعركة والتخلى عن مناطق نفوذها بتلك السهولة التى تخلت فيها قوات «الأسد» عن مواقعها، لن تترك «روسيا» قاعدتها البحرية الوحيدة فى البحر المتوسط بميناء «طرطوس » السورى، وإن رصدت أقمار العالم الصناعية جميعها قطعها البحرية تغادر هذا الميناء، فلن تتنازل «موسكو» بسهولة عن عقد إيجار قواعدها العسكرية «الجوية والبحرية» البالغة مدته 49 عامًا، لن تتنازل «موسكو» عن قدمها في شرق المتوسط أو تعزيز نفوذها فى تلك المنطقة.
فى نفس الجبهة من الصراع، خسرت إيران جسرًا بريًا إلى شرق المتوسط وإمداد ذراعها اليمنى «حزب الله» بالسلاح، ما يضعف قوتها ويصيب أطرافها بالشلل، وستعاود عاجلًا أو آجلًا محاولة استعادة هذا الجسر والحفاظ على ماء وجهها فى حلبة صراع القوى الإقليمية فى منطقة المتوسط.
الغاز يفسر الألغاز
تأتى أهمية «دمشق» فى حلبة الصراع العالمى بسبب موقعها كمفتاح لمنطقة الشرق الأوسط الكبير، ومنطقة نفوذ استراتيجى مهمة عند ملتقى ثلاث قارات، وتزداد أهمية «سوريا» كنقطة محورية بعد اكتشاف «كنز غاز شرق المتوسط» فى السنوات الأخيرة، فحسب تقديرات مركز «فيريل للدراسات» فى برلين، توقع أن تحتل سوريا المركز الثالث عالميًا فى إنتاج الغاز لو تمكنت من رفع قدرتها الإنتاجية إلى حدها الأقصى، وعن هذا «الكنز»، قال أسامة مبارز الأمين العام لمنتدى غاز شرق المتوسط: إن الاحتياطيات المؤكدة فى منطقة شرق المتوسط تبلغ 130 تريليون قدم مكعبة، وأن حجم الاحتياطيات المتوقعة 300 تريليون قدم مكعبة.
قد يفسر هذا «الكنز من الغاز» وأهميته لمستقبل الطاقة «ألغاز الصراع» فى فضاء سوريا، وما يمكن أن تلعبه «دمشق» بشأن مشروعات مد خطوط أنابيب الغاز إلى أوروبا، ويفسر أيضًا تصريحات قادة مجموعة الدول السبع الكبار «الولايات المتحدة وفرنسا وكندا وألمانيا وبريطانيا واليابان وإيطاليا» استعدادها لدعم عملية انتقالية فى إطار يؤدى إلى حكم موثوق وشامل وغير طائفى فى سوريا.
الخلاصة: تقف سوريا الآن فى مفترق طرق بين أنغام فرحة حاضرة، وترانيم مخاوف السقوط والتفتيت المنتظر، وبين «تلك الأنغام وهذه الترانيم» ترقص «اسرائيل» طربًا، فتضرب العمق السورى وتستبيح أراضيه وتدمر قواته ومقدراته لشل حركته اليوم وغدًا وبعد غد، ونكتفى نحن العرب أصحاب المصلحة الأولى فى استقرار«سوريا» ودعمه ووحدته، بمقعد المتفرج خلف كواليس الأحداث، لا تفارقنا كلمات التنديد والشجب والاستنكار والدعوات عن بعد!
حفظ الله مصر من كل سوء.
0 تعليق