تعثرتُ به اليوم، فى اللحظة التى تمنيتُ فيها انصهار الطريق بين عملى كفرد أمن لإحدى شركات «بئر السلم» فى «جاردن سيتى»، و«غرفتى» على سطح بيت مهترئ فى «المنيرة». وقف «عادل» عند قدمى بسيارته الفارهة. زاملته ست عشرة سنة؛ منذ ابتدائية «المنيرة» حتى تخرجنا فى جامعة القاهرة! عشرون عامًا مرت دون لقاء، لكنه عرفنى من مشيتى المنهزمة!
فارقتنى لياقة الترحيب؛ هو على مقعده الوثير داخل سيارة فارهة ابتسامته عريضة، يحاول إيهامى بأنه نال الآن ما تمناه منذ سنوات، فنسجتُ كالعنكبوت خيوطًا من ابتسامات باهتة حول شفتى طابت له!
أقف منتصبًا على الرصيف؛ مال بجذعه ناحيتى، كاد يلمس الكرسى بوجهه، مدَّ ذراعه فاتحًا الباب، بينما حاول بيده الأخرى تخفيف وطأة حزام الأمان الذى قيده فى المقعد! أشار بكفّه كى أدخل مقصورته قائلًا: «هيا ندع السيارة تنطلق حيث تشاء، ونهيم نحن فى ذكرياتنا».
ليس لدىّ ما يحول بينى وبين رغبته؛ ركبت، فوجه لى أمرًا جديدًا: «اربط حزام الأمان لنطير».
تولى زمام الحديث؛ يفصح عن أدق تفاصيل حياته بثبات وثقة! يحشو جُمَلَهُ المتطايرة بضحكات هستيرية، وألفاظ نابية أحيانًا: «بعد تخرجنا فى كلية الحقوق نلت درجة الدكتوراه فى القانون الدولى، أصبحت أستاذًا مساعدًا، زوجتى (نسمة هانم) ابنة الدكتور (مختار) أستاذ القانون الدولى، أنت تعرفه جيدًا، صار الآن عميدًا للكلية. (نسمتى) الخبيرة الاقتصادية ومديرة الائتمان فى (بنك مصر) أنجبت لى ولدًا وبنتًا فى الصفين الخامس والسادس بالمدرسة البريطانية، مصروفاتهما المدرسية تجاوزت ثلاثين ألف دولار هذا العام!».
لم أنطق بكلمة؛ ليس لدىّ سوى الفشل والإخفاقات، أأخبره بأننى ما زلت عاجزًا عن الالتحاق بوظيفة لائقة، بأننى عجوز ينتظر الموت داخل قبر على أحد الأسطح القريبة جدًا من السماء، إنَّ الزوجة ترفُ والأبناء رفاهية؟
أتابع بقلق حماقاته فى القيادة؛ أختبئ وراء جدار من الأسئلة، ربما إذا سمعها طردنى من سيارته، لكنه فى عالم آخر! ينظر إلىَّ من خلال نظارته الشمسية- الأصلية- يسرد منتشيًا واقعه ومستقبله. الثراء والنعيم يمنحان اللسان طاقات جبارة، انطلاقًا فريدًا تمامًا كسيارته التى قطعت «قصر العينى» متجهة نحو كوبرى قصر النيل فى ثوانٍ!
لم يدع نظارته الثمينة تقف حائلًا بينى وبينه قط! يُصِرُ دائمًا على تصويب نظراته القاتلة نحو عينى، تارة يعلق نظارته فوق جبهته، تسقط فيُعيدها بسبابته، تنزلق على أنف تشبه أنف الساحرة العجوز فيتركها للحظات ثم يثبتها فوق هامته، تُرى هل يعلم ما يجول بخاطرى تجاهه، أم يحاول استكشاف مشاعرى؟ فى الحالتين لن يجد خيرًا أبدًا!
رنين هاتفه لا ينقطع؛ يقول مزهوًا بينما أنظر إليهما فى حنق: «الهانم؛ سأغلق الموبايل، لا أرغب أن يُشتتَ أحدٌ تفكيرى أو يقاطعنى».
لو أنَّ لى زوجة مثله، لن أصبر حتى أرجع إلى البيت؛ سأهاتفها كل ساعة كل دقيقة، لو أننى محظوظ مثله ولدىّ أولاد مثله، سوف أخوض فى حوارى معها عن مشاغباتهم، دراستهم، مواعيد تدريب السباحة والتنس، أسألها عن وجبة الغداء، ماذا أعدَّت لنا هذا المساء؟ متى ستذهب إلى مصفّف الشعر ؟ مؤكّد أنها فائقة الجمال، تُحسن اختيار ألوان فساتينها، رشيقة، تعشق الأحذية ذات الكعوب العالية، تجيد فنون الحب.. هذا إن كنت محظوظًا مثله!
أنا أكثر منه ذكاءً ونبوغًا وحضورًا، لكن بيننا اختلافات جوهرية، أهمها أنَّ الحظ يمقتنى!
سطا «عادل» على كل شىء وانتهبه؛ كل ما كان مقدرًا لى استأثر به، اغتصب دجاجتى فباضت له ذهبًا، فتح مغارتى بكلماتها السحرية، وحظه الذى يطاوعه، فنال كل شىء! أتابعه من خلال نظارتى الطبية العرجاء؛ ربما استشعر النيران المستعرة داخل صدرى، أو سمع فحيح قولون أوشك على الانفجار غيظًا وكمدًا، لماذا ينتصر هؤلاء دائمًا؟ سؤال سرمدى بحجم ثرواتهم!
صاروخ ينفلت من المجرة راصدًا الهدف! عبر «عادل» كوبرى قصر النيل «لا ينظر أمامه»، غير عابئ بالزحام، كأنه ملك الموت! ربَّاه، كيف علم هذا المعتوه أننى أتوق إلى خلاص؟ انتبه «عادل» إلى سيارة فى الطريق المقابل تتجه صوبنا! حاول تفاديها، انحرف بسرعة ناحية اليمين، اصطدم بسور الجسر!
ترتفع مؤخرة السيارة فتهوى إلى النيل فى دوائر متتابعة! أحاول أن أستوعب، أراقب دون فزع؛ يقبضُ «عادل» بكلتا يديه على مقود السيارة، تسقط نظارته، اكتشف حينئذ العالم من خلال الزجاج!
ليس عند الشاطئ غير شاب رفع سنارته الخاوية، وبدأ يوثق المأساة بكاميرا هاتفه، أرسلتُ إليه عبر زجاج السيارة وعدسة محموله آهَةً حارَّة: «أرحلُ مع رجل لم أتوقع صحبته!».
لحظة السقوط لم يُعِرْنى «عادل» انتباهًا! رأيته آمنًا مطمئنًا! خبيرٌ تمرس على هذا الموقف مرات، قبل الارتطام بسطح الماء، فك حزام الأمان، حرَّر صدره وخصره، فتح الباب، قفز إلى الماء، كذئب فرَّ من الضباع تاركًا فريسته، أُعَبئ رئتىّ بهواء يكفى لثوانٍ فى قاع النيل.
0 تعليق