في مدينة ملوي التابعة لمحافظة المنيا بصعيد مصر، حيث تتناغم حضارات الماضي مع تطلعات المستقبل، يقف متحف آثار ملوي شامخاً كواحد من أهم الصروح الثقافية والإقليمية التي توثق عظمة التاريخ المصري.
وعلى الرغم من التحديات التي واجهها على مر السنين، يواصل المتحف تأدية رسالته كجسر يربط بين الأجيال ويعيد إحياء التراث بمفهوم عصري.
تأسيس المتحف.. رؤية إقليمية للتراث
بدأت قصة متحف ملوي عام 1961، حينما رأت الدولة المصرية أهمية إنشاء متحف إقليمي بمحافظة المنيا، ليتولى عرض القطع الأثرية المكتشفة في منطقتي تونة الجبل والأشمونين، اللتين تزخران بآثار تعود إلى عصور مختلفة، بدءاً من الحضارة الفرعونية وحتى القبطية والإسلامية.
تم افتتاح المتحف رسمياً في 23 يونيو 1962 خلال عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ليصبح بذلك شاهداً على تاريخ منطقة لطالما كانت مسرحاً للحضارات المتعاقبة.
المتحف شُيّد على مساحة 600 متر مربع، واكتسى تصميمه الخارجي بلمسات مستوحاة من صروح المعابد الفرعونية، وخصوصاً معبد الكرنك. كان هذا التصميم المميز بمثابة انعكاس لعظمة الحضارة المصرية التي طالما ألهمت الأجيال.
التحديات التي واجهها المتحف
لم تكن مسيرة المتحف سهلة؛ إذ تعرض خلال أحداث فض اعتصامي رابعة والنهضة في أغسطس 2013 لأعمال عنف وسرقة ونهب، ما أسفر عن فقدان العديد من مقتنياته الأثرية وتحطيم أجزاء كبيرة من هيكله الداخلي والخارجي.
وقبل الهجوم، كان المتحف يضم 1089 قطعة أثرية من عصور تاريخية متعددة، جميعها تنتمي جغرافياً إلى إقليم المنيا.
لكن هذه المحنة لم تقف حائلاً أمام إرادة الدولة المصرية في الحفاظ على التراث. بدأت أعمال إعادة تطوير وتأهيل المتحف بتكلفة بلغت 11 مليون جنيه، ليُعاد افتتاحه في 22 سبتمبر 2016 بحلة جديدة، معززة بتصميم حديث وسيناريو عرض متحفي مبتكر، يعكس روح التفاعل مع الزائرين.
سيناريو عرض جديد.. حكايات من عمق التاريخ
يعرض المتحف اليوم حوالي 950 قطعة أثرية نادرة، موزعة على ثلاث قاعات رئيسية، كل منها تروي جزءاً مختلفاً من تاريخ المصريين القدماء:
القاعة الأولى: تُسلط الضوء على الحياة اليومية للمصري القديم، بما في ذلك تفاصيل الحياة الأسرية، عاداتهم وتقاليدهم، والحرف والصناعات التي اشتهرت بها منطقة المنيا قديماً.
القاعة الثانية: تعرض مجموعة متنوعة من الأواني الفخارية، الحُلي، أدوات الزينة، أواني العطور، المسارج، والتماثيل البرونزية والخشبية التي توضح الحياة الجنائزية وأساليب الدفن.
القاعة الثالثة: تقدم عرضاً متدرجاً للحضارات التي مرت على مصر، بدءاً من الحضارة الفرعونية، مروراً باليونانية والرومانية، وصولاً إلى القبطية والإسلامية.
أبرز المقتنيات
من بين المعروضات المميزة في المتحف، تمثال مزدوج نادر لـ”بيبي عنخ إيب” مصنوع من الحجر الجيري الملون يعود إلى عصر الأسرة السادسة في الدولة القديمة، بالإضافة إلى تمثال لإحدى بنات الملك أخناتون اكتُشف في منطقة تل العمارنة، وتابوت خشبي مذهّب من العصر المتأخر.
دور مجتمعي وتفاعل ثقافي
لم يعد متحف ملوي مجرد مكان لعرض الآثار؛ بل أصبح مؤسسة ثقافية ومجتمعية تستهدف مختلف الفئات العمرية والاجتماعية. يعمل القسم التعليمي بالمتحف على تنظيم ورش عمل مبتكرة تركز على الحرف التراثية مثل السجاد والفخار وأدوات الزينة والخوص، بالإضافة إلى برامج تفاعلية مخصصة للأطفال تشمل مسرح العرائس وسينما الأطفال التي تقدم عروضاً تاريخية بطريقة جذابة.
كما يحرص المتحف على دمج ذوي الهمم في أنشطته من خلال ورش خاصة مثل “برايل” للمكفوفين، ولقاءات موجهة لكبار السن. يمتد نشاط المتحف إلى خارج أسواره عبر برامج توعوية تستهدف طلاب المدارس، لتعليمهم سلوكيات وأدبيات زيارة المتاحف وأهمية احترام التراث.
منارة ثقافية تربط الماضي بالحاضر
اليوم، يُعد متحف آثار ملوي أكثر من مجرد صرح أثري؛ فهو رمز لصمود التاريخ أمام التحديات، ومنارة تجمع بين الحفاظ على التراث وتقديم تجربة تعليمية وثقافية تفاعلية للجميع. من خلال التصميم المتجدد والعروض المبتكرة، يُلهم المتحف زواره للتأمل في ماضي مصر العريق وربطهم بجذورهم الثقافية، ما يجعله وجهة لا غنى عنها لكل عشاق التاريخ والثقافة.
استشراف المستقبل
مع كل خطوة يخطوها متحف ملوي، يعزز مكانته كمركز ثقافي وتعليمي في صعيد مصر. إنه ليس مجرد سجل للماضي، بل جسر يصل الحاضر بالمستقبل، ودعوة للجميع للتعمق في عبقرية الحضارة المصرية التي لا تزال تبهر العالم حتى اليوم.
0 تعليق