يبدو أن الكويت تسير في اتجاه تأصيل نموذج «الأفيال البيضاء» في تشييد مشاريعها وتنفيذ خططها وصرف مواردها وفق صورة محلية تقارب بدرجة ما نموذج نفس الأفيال المتعارف عليه في جنوب شرق آسيا.
ومصطلح الفيل الأبيض مستمد من الثقافة البوذية في مملكة سيام القديمة (تايلند حالياً)، ويشير إلى الفيل المقدس ذي اللون الأبيض الذي يتم الإنفاق الباهظ على خدمته ورعايته ورفاهيته، من دون أي حق في تشغيله أو الاستفادة منه، فيتحول رغم جمال منظره و«قداسته» الى عبء على صاحبه.
وقد بات مصطلح الأفيال البيضاء يستخدم في الاقتصاد كدلالة لأي استثمار أو خطة أو مشروع ذي كلفة مالية عالية لا يحقق عوائده أو أهدافه ويتحول الى عبء مالي على ملّاكه، لا سيما مشاريع البنية التحتية الضخمة التي تمولها الحكومات، وتعتقد أنها سوف تساعدها في تحقيق نمو اقتصادي سريع، لكنها لعوامل متعددة، كسوء الإدارة أو لخطأ في قراءة احتياجات السوق والطلب، تتحول إلى «فيلة بيضاء» تستهلك الأموال من دون أرباح مادية مرجوة للدولة، وهو مصطلح يمكن - على ما يبدو - إسقاطه على العديد من المشاريع والخطط في الكويت، لا سيما التي تتطلب إنفاقاً مالياً عالياً دون تحقيق الأهداف الاقتصادية أو التنموية.
ما يسمى بـ «إنجاز» خطة التنمية أظهر أن الإنفاق بلغ%9.7 من ميزانيتها وتم تنفيذ%1.5 من مشاريعها
قيمة وفهم
وبحسب ما صدر الشهر الجاري من تقارير اقتصادية، الأول هو تقرير المتابعة نصف السنوية لخطة التنمية عن فترة النصف الأول من عام 2024 - 2025، الصادر عن الأمانة العامة للمجلس الاعلى للتخطيط، الذي تضمن الموقف التنفيذي للعديد من المشاريع والخطط والتوجهات الحكومية، والثاني هو تقرير «الإنفاق الاجتماعي وكفاءة الإنفاق والاستدامة المالية... استراتيجيات لإعادة التوازن إلى ميزانية الكويت»، الصادر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)... وكلا التقريرين يشير الى انحراف الإنفاق العام قيمة وفهما عن مستهدفات تنمية الاقتصاد ومواجهة استحقاقات المستقبل التنموية والخدمية.
قياس منحرف
فتقرير متابعة خطة التنمية الذي لا يزال يقيس نسب إنجاز المشاريع والخطط بمنظور منحرف، أي بما ينفق عليها من أموال وليس من سياسات تتعلق مثلاً بإصلاح التعليم ليواكب تحديات سوق العمل أو يحفز القطاع الخاص، ليرفع من نسبته وتنوّعه في حجم ومكونات الناتج المحلي الإجمالي يشير الى أن نسبة «إنجاز» خطة التنمية في النصف قبل الأخير من عامها الخامس قد بلغ 9.7 بالمئة فقط، وفق قاعدة الإنفاق المالي، بعدما تم إنفاق 111 مليون دينار من أصل 1.2 مليار معتمدة للخطة و1.5 بالمئة من المشاريع التي تم تنفيذها، أي بواقع مشروعين من أصل 133 مشروعاً وردت في الخطة.
الإنفاق العام يوازي %50 من الناتج المحلي أي أعلى من المتوسط العالمي البالغ %37 لكن بكفاءة تبلغ 0.54 نقطة مقارنة بمتوسط عالمي عند 0.74 نقطة
إنفاق ونتائج
أما تقرير «الإسكوا»، فقد ناقش مسألة تصاعد الإنفاق العام في الكويت مقابل تراجع مؤشرات التنمية، في ظل ضعف القطاعات غير النفطية، ومحدودية القطاع الخاص، وغياب الموازنات المعتمدة على الأداء، وعدم إنشاء منصات رقمية لتحسين الشفافية وتعزيز الكفاءة، فضلاً عن ضعف جمع الإيرادات غير النفطية، مع إشارته الى أن الإنفاق العام في الكويت يوازي 50 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو معدل أعلى بكثير من المتوسط العالمي البالغ 37 بالمئة، لكن الأسوأ هنا أن إدارة هذا الإنفاق غير كفوءة، حيث تسجل الكويت 0.54 نقطة على مؤشر الكفاءة، مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ 0.74 نقطة.
قلق متعاظم
وفي الحقيقة، فإن تقريري «التنمية والإسكوا» يؤكدان ما هو ثابت، ولا يكشفان أي جديد بشأن الحالة الاقتصادية والتنموية والمالية في البلاد، فانحراف التنمية عن مستهدفاتها ومعاكسة الإنفاق المالي لمؤشرات كفاءة الاقتصاد هي أمور معلومة لكل من يتداول شأن الإدارة العامة والميزانيات المتتابعة ومرتبة البلاد التنافسية، غير أن القلق اليوم يتعاظم تجاه ما تحتويه خطط التنمية من مشاريع كبرى قيمتها المالية ضخمة، لكن عوائدها الاقتصادية من حيث سوق العمل والتركيبة السكانية وحجم وتنوّع القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي، بل وحتى حجم الإيرادات غير النفطية فيها ليست غير معروفة فقط، إنما لم تناقشها خطة التنمية ولا برنامج عمل الحكومات السابقة - البرنامج الحكومي الجديد لم يصدر منذ 8 أشهر - ولا حتى ورد بصيغة تحتوي أي قدر من الجدية في تصريحات الوزراء المعنيين بالملف الاقتصادي أو مسؤولي جهاتهم التابعة.
لا أحد يعلم فاعلية ميناء مبارك بعد تشغيل «الفاو» أو عوائد المطار الجديد دون مشروع لتسويق الكويت أو طرح مناطق صناعية في ظل عقود إيجار بالباطن!
مشاريع وعوائد
فالكويت، وفق ما هو موجود في خطط التنمية المرتبطة بمشاريع البنية التحتية، مقبلة على تنفيذ مشاريعها المتأخرة منذ نحو 20 عاماً، كميناء مبارك والمطار الجديد والسكك الحديدية ومشاريع الجزر والمنطقة الشمالية والطاقة التقليدية والمتجددة والمناطق الصناعية والمدينة الترفيهية ومدينة الشحن ومبادرات الأمن الغذائي، وهذه كلها من دون شك مشاريع مفيدة، لو تم قياس إنجازها بما تحققه من عوائد للاقتصاد من حيث فرص العمل، ومعادلة التركيبة السكانية، وحجم وتنوع القطاع الخاص، فضلاً عن العوائد المالية غير النفطية لخزينة الدولة، وليس من خلال ما تم إنفاقه مالياً عليها... فقياس العائد الاقتصادي يحقق أهدافاً تنموية، أما قياس الإنفاق المالي فقط فهو عمل محاسبي لا يعبّر عن استراتيجية تستهدف معالجة الاختلالات العميقة في الاقتصاد الكويتي.
أفيال كويتية
الخوف من أن تتحول مشاريع الكويت الاستراتيجية في البنية التحتية الى «أفيال بيضاء» ليس من قبيل المبالغة، فالآلية التي نتعامل بها مع هذه النوعية من المشاريع تثير قدراً كبيراً من التوجس والقلق حول استدامتها ومستقبلها، فمثلاً حتى بعد مرور نحو 6 أشهر لم يكشف أي مسؤول في الكويت عن فائدة أو فاعلية ميناء مبارك الكبير، الذي أقر مجلس الوزراء، الأسبوع الجاري، إجراءات التعاقد مع شركة حكومية صينية لتنفيذه وإدارته وتشغيله، في ظل تشغيل العراق ميناء الفاو من ضمن مشروع شراكة إقليمي تحت مسمى طريق التنمية، أو ما يمكن أن يحققه المطار الجديد من مشروع أكبر كربط للكويت مع العالم وتسويقها وجعلها محطة ترانزيت للمسافرين بين الشرق والغرب، إلى جانب ما يمكن أن تحققه المناطق الصناعية من إنتاج محلي وفرص عمل للمبادرين، دون المرور على عقود الإيجار بالباطن الضارة بحقوق الدولة والمستهلكين والمنتجين الفعليين.
والأمثلة في هذا السياق عديدة، والمخاوف مستحقة، لذلك فإن بناء المشاريع بلا خطة واضحة ولا سياسات فعالة لتحقيق المنافع التنموية سيحولها الى «أفيال بيضاء» ترهق مالية البلاد وتضيّع فرص الاقتصاد... وهذه ليست دعوة لوقف تنفيذ المشاريع، بل لأن تكون موجهة بشكل حقيقي لمعالجة الاختلالات الهيكلية التي تعوق أي معالجة للإصلاح والتنمية.
0 تعليق