عبر سنوات طويلة، ظلت العلاقات السودانية التشادية نموذجًا للتشابك الاجتماعي والقبلي الذي يتجاوز حدود الجغرافيا، حيث تتقاسم الدولتان تاريخًا مشتركًا يمتد إلى ما قبل الحقبة الاستعمارية، يتجلى في التداخل القبلي والثقافي والديني.
ورغم هذا العمق التاريخي، لم تكن العلاقات بين الخرطوم وانجمينا بمنأى عن التقلبات والصراعات التي فرضتها الأزمات السياسية والنزاعات المسلحة، مما ألقى بظلاله الثقيلة على مختلف جوانب التعاون بين البلدين.
اليوم، ومع تصاعد حدة الأزمات في السودان وامتداد تأثيرها إلى الجوار، تبدو العلاقات السودانية التشادية على مفترق طرق، حيث تتجلى تحديات مشتركة مثل النزوح، التهريب، والاضطرابات الأمنية، ما يفتح الباب أمام تساؤلات ملحة: هل تستطيع الخرطوم وانجمينا تجاوز تراكمات الماضي وبناء شراكة قائمة على المصالح المشتركة؟ أم أن أزمات الداخل ستظل حائلًا دون استعادة علاقات طبيعية؟.
تاريخ كبير من العلاقات
قال المحلل السياسي التشادي، الصافي آدم العامري، إن العلاقات بين السودان وتشاد تمتد لعقود طويلة، مشيرًا إلى أن هذه العلاقات ليست وليدة اللحظة، بل تعود إلى ما قبل حقبة الاستعمار، لافتًا إلى أن الروابط بين البلدين تتنوع بين الثقافية والدينية والعرقية، حيث تتداخل القبائل على جانبي الحدود، ما يعزز من عمق هذه العلاقة.
أضاف العامري في تصريحات خاصة لـ "الفجر"، أن هناك قبائل سودانية وتشادية ترتبط ببعضها بشكل مباشر، سواء كانت قبائل عربية أو غير عربية؛ على سبيل المثال، نجد أن بعض القبائل التي تقطن مدينة أدري التشادية هي نفسها تمتد داخل الأراضي السودانية، والعكس صحيح، هذا التداخل يجعل العلاقات بين الخرطوم وانجمينا أكثر عمقًا وتاريخية.
وفيما يتعلق بالمشكلات الراهنة التي تعاني منها الدولتان، أوضح العامري أن هذه الأزمات ليست مشكلات سياسية بالدرجة الأولى، بل يمكن تصنيفها على أنها "صراعات قبلية".
أكمل حديثه قائلا: "الصراع القائم في السودان بين القوات المسلحة بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) له تأثير مباشر على القبائل الموجودة على الحدود التشادية السودانية، مثل الجنينة وأدري، ما يساهم في تأجيج الأوضاع بين البلدين".
وأكد العامري أن تشاد تأثرت بهذه الصراعات بشكل مباشر، خاصةً فيما يتعلق بموجات النزوح والاضطرابات الحدودية، واستشهد برفض السلطات التشادية السماح بإجراء امتحانات الطلاب السودانيين على أراضيها مؤخرًا، الأمر الذي أثار استياءً بين السودانيين، معتبرًا أن هذا يعكس حساسية المرحلة الحالية.
ورغم التحديات، عبّر العامري عن تفاؤله بعودة العلاقات بين السودان وتشاد إلى مسارها الطبيعي قريبًا، مؤكدًا ان العلاقات التشادية السودانية ستعود إلى طبيعتها في المستقبل القريب، ولكن تحقيق ذلك يتطلب تعزيز التفاهم بين الطرفين والعمل على حل المشكلات الحدودية بطريقة تضمن استقرار البلدين.
وختم المحلل السياسي التشادي حديثه بالتأكيد على أن العلاقات السودانية التشادية قائمة على أسس تاريخية متينة، ما يجعلها قادرة على تجاوز الأزمات الراهنة إذا ما توافرت الإرادة السياسية والحلول المشتركة.
النزاعات المسلحة
من جانبه أوضح المحلل السياسي السوداني، محمد الأمين أبو زيد، أن العلاقات بين السودان وتشاد مرت بتقلبات عديدة على مدار السنوات الماضية نتيجة الأحداث السياسية والامتدادات القبلية والنزاعات الحدودية، مشيرًا إلى أن استعادة العلاقات بين البلدين تتطلب إرادة سياسية مشتركة لمعالجة القضايا العالقة وتعزيز التعاون في مجالات الأمن والتجارة.
أضاف أبو زيد في تصريحات خاصة لـ "الفجر"، أن النزاعات المسلحة أثرت بشكل كبير على العلاقات الثنائية، حيث خلقت حالة من عدم الثقة بين الجانبين، مضيفًا أن الحدود بين السودان وتشاد شهدت توترات مستمرة أدت إلى انعدام الأمن وزيادة التهريب والنشاطات غير القانونية، بالإضافة إلى تأثير النزاعات على العلاقات الاقتصادية التي شهدت تراجعًا كبيرًا في حجم التبادل التجاري.
وأشار إلى أن أزمة اللاجئين كانت واحدة من القضايا التي أثقلت كاهل العلاقات، حيث استقبلت تشاد أعدادًا كبيرة من اللاجئين السودانيين، مما شكل ضغطًا على مواردها وبنيتها التحتية، مؤكدًا أن التحديات الأمنية التي تواجه البلدين، مثل وجود جماعات مسلحة على جانبي الحدود، تفرض ضرورة تعاون أمني مشترك لمواجهتها.
وحول مستقبل العلاقات، نوه أبو زيد إلى أن استقرار الأوضاع السياسية في السودان وتشاد سيكون عاملًا حاسمًا في تحسين العلاقات ورغم محاولات تحسين العلاقات الدبلوماسية في فترات سابقة، إلا أن عدم الاستقرار السياسي حال دون تحقيق تقدم ملموس.
أستكمل حديثه قائلًا:" أن التدخلات الدولية في النزاعات الداخلية للبلدين ساهمت في تعقيد المشهد، حيث اعتبر أن الحرب الحالية في السودان تمثل نموذجًا لهذا التأثير السلبي".
نوه المحلل السياسي السوداني إلى أن تحسين العلاقات السودانية التشادية يتطلب جهودًا مشتركة ودعمًا إقليميًا ودوليًا لدعم الاستقرار وحل القضايا العالقة، مضيفًا أن عودة العلاقات إلى طبيعتها ستكون مرهونة بنتائج الحرب الدائرة في السودان ومدى قدرة البلدين على تجاوز التحديات الراهنة.
تعقيدات وتوترات مستمرة
كما يري الدكتور كمال دفع الله بخيت، المحلل السياسي السوداني، أن العلاقات بين السودان وتشاد عرفت على مدى التاريخ تعقيدات وتوترات مستمرة، ارتبطت بشكل رئيسي بالتداخل القبلي والحدودي بين البلدين، حيث تتقاسم أكثر من 13 قبيلة حدودية مشتركة مشيرًا إلى أن هناك فرصًا حقيقية لتحسين العلاقات الثنائية، خاصة في ظل الظروف السياسية الراهنة التي يمر بها السودان.
أضاف الدكتور بخيت في تصريحات خاصة لـ "الفجر"، أن التعاون الأمني يمكن أن يشكل ركيزة أساسية لإعادة بناء العلاقات بين الخرطوم وانجمينا، خاصة من خلال التركيز على قضايا مكافحة الإرهاب، منع التهريب، وتعزيز التعاون التجاري.
كما أعتبر أن ضبط الحدود يمثل خطوة محورية نحو استقرار المنطقة، لكنه يتطلب رؤية سياسية واضحة وإرادة حقيقية من الطرفين موضحًا أن الأزمة الحالية في السودان يمكن أن تكون فرصة لإعادة صياغة العلاقة بين البلدين على أسس من الشراكة التنموية والأمنية.
وبيّن أن النزاعات والصراعات التي يعاني منها السودان لا تقتصر آثارها على حدوده فقط، بل تمتد إلى تشاد، مما يجعل من الضروري أن يعمل البلدان بشكل مشترك على معالجة هذه الإشكالات.
أشار إلى أن التركيبة الاجتماعية المركبة في السودان وتشاد تمثل تحديًا معقدًا، حيث تؤدي التوترات الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن النزاعات في السودان إلى تأثيرات مباشرة على الجانب التشادي.
وشدد على أهمية التعاطي مع القضايا الاجتماعية والاقتصادية بشكل يضمن الأمن والاستقرار لكلا الجانبين، مؤكدا أن مستقبل العلاقات السودانية التشادية يعتمد بشكل أساسي على التطورات السياسية والأمنية في البلدين، إلى جانب قدرة القيادات السياسية على تجاوز التحديات الراهنة.
ودعا المحلل السياسي السوداني إلى تبني الدبلوماسية كوسيلة للتفاوض وبناء الثقة، مؤكدًا أن توفر الإرادة السياسية يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة لتعزيز العلاقات الثنائية وتحقيق الاستقرار الإقليمي بما يخدم مصالح الشعبين.
0 تعليق