في آخِر فصلٍ من فصول رئاسته، فَرَضَ الرئيس جو بايدن بعضاً من أقسى العقوبات حتى الآن على قطاع النفط والغاز في روسيا.
وتأتي هذه الخطوة قبل أيام فقط من تولي الرئيس المنتخَب دونالد ترامب منصبه، ما يؤثر بشدة على السياسة الخارجية للإدارة المقبلة.
وقد تلعب الصين، الشريك الرئيسي لموسكو، دوراً كبيراً في التخفيف من تأثير هذه العقوبات من خلال زيادة مشترياتها من النفط والغاز الروسييْن، لتعويض بعض خسائر الكرملين، وبالتالي إضعافِ فعالية العقوبات بشكل عام.
وتؤكد هذه الدينامية على تعقيدات عزْل روسيا في عالَمٍ متعدّد القطب.
وبالإضافة إلى العقوبات التي تستهدف قطاع الطاقة الروسي، اتخذت إدارة بايدن العديد من تدابير اللحظات الأخيرة العقابية الأخرى ضد جهات دولية مختلفة مثل زعيم قوات الدعم السريع السودانية، ومسؤولين فنزويليين والمجريين.
القوة الناعمة - المدمرة
لا تُطبّق العقوباتُ بشكل موحّد، وكثيراً ما تهدف إلى إضعاف نفوذ الدولة المُنافِسة أو تأمين مزايا إستراتيجية.
ورغم تصويرها كوسيلة لتشجيع الحُكْم الديمقراطي، فإن العديد من هذه الأنظمة غير الديمقراطية تظلّ شريكة قوية لدول ديمقراطية. والواقع أن المعايير المزدوجة في سياسات العقوبات تكشف عن الدوافع الحقيقية وهي أن العقوبات نادراً ما تهدف إلى تعزيز الديمقراطية الفعلية، بل إنها بدلاً من ذلك أدوات للإكراه لإجبار دول على الخضوع لمصالح البلدان الأكثر قوة.
كانت العقوبات لفترة طويلة أداة مفضَّلة للسياسة الخارجية، حيث تشكّل وسيلةً لممارسة الضغط على الخصوم من دون اللجوء إلى التدخل العسكري.
ومع ذلك، فإن تأثيرَها الاقتصادي والاجتماعي غالباً ما يتجاوز الأهداف المقصودة، حيث تصيب مفاعيلها السكان في حين تترك الحكومات الراسخة سالمة نسبياً. وتثير هذه المفارقة تساؤلاتٍ بالغة الأهمية حول فعاليتها، وخصوصاً مع تأثير العقوبات في شكل متزايد على الدول الحليفة والاقتصادات الضعيفة.
وتهدف العقوبات عادةً إلى تعطيل الاقتصادات من خلال قطْع الوصول إلى الموارد الأساسية والتجارة والتمويل.
وفي بلدان مثل سورية ولبنان، خلّفت هذه الاستراتيجية إرثا مدمراً. ولا تزال سورية تواجه عقوباتٍ شلّتْها رغم سقوط بشار الأسد، ما يخنق جهود إعادة الإعمار ويُبْقي اقتصادَها في حال يرثى لها.
ولبنان، المثقَل بنظامٍ مصرفي منهار وعملةٍ فقدت أكثر من 90 في المئة من قيمتها، يكافح تحت وطأة العواقب غير المباشرة للعقوبات الإقليمية الأوسع نطاقاً بهدف ضرب قاعدة "حزب الله" والسيطرة على لبنان، كما قال ديفيد شينكر، المساعد السابق لوزير الخارجية الاميركي. وقد أدى الانهيار المالي والتضخم المفرط في لبنان، إلى جانب العقوبات غير المباشرة، إلى تدمير الطبقة المتوسطة، في حين تظل النخبة السياسية غير متأثرة إلى حد كبير.
في الأنظمة غير الديمقراطية، غالباً ما تفشل العقوبات في إضعاف الحكومات. وبدل ذلك، يعزّز القادةُ سلطتَهم، باستخدام العقوبات ككبش فداء لتبرير الصعوبات الداخلية حيت يتحمّل المواطنون العاديون العبء الأكبر، ويواجهون التضخم والبطالة وارتفاع أسعار السلع الأساسية.
وغالباً ما تستند العقوبات إلى افتراضِ أن الصعوبات الاقتصادية الواسعة النطاق ستضغط على المواطنين للمطالبة بالتغيير السياسي.
ومع ذلك، في كثير من الحالات، لا يملك السكان في الدول الخاضعة للعقوبات سوى وسائل محدودة لتحدّي حكوماتهم.
والعقوبات التي تستهدف كبار المصدّرين للطاقة مثل روسيا تؤثّر أيضاً على الاقتصاد العالمي، حيث كانت أوروبا من بين الأكثر تضرراً.
وقبل حرب أوكرانيا، كانت أوروبا تستورد ما يقارب 40 في المئة من الغاز الطبيعي من روسيا. وأجبرت العقوباتُ الدولَ على البحث عن بدائل، مثل الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة وقطر، ولكن بتكاليف أعلى بكثير.
وقد أدى هذا التحول إلى تَفاقُم التضخم في جميع أنحاء القارة، وتآكُل القوة الشرائية للأُسَر، وزيادة تكاليف الإنتاج للصناعات كثيفة الطاقة.
وتواجه دول مثل المملكة المتحدة، التي تعاني بالفعل من انخفاض احتياطات الغاز، انعدامَ الأمن المتزايد في مجال الطاقة.
وتكافح ألمانيا، القوة الصناعية الكبرى، مع انخفاض قدرتها التنافسية في ضوء تقويض أسعار الطاقة المرتفعة لتفوّقها الاقتصادي.
أما الولايات المتحدة التي تستفيد من زيادة صادرات الغاز الطبيعي المسال، فتجد نفسها مُتَّهَمةً باستغلال نقاط ضعف حلفائها، ما يؤدي إلى تأثر العلاقات عبر الأطلسي.
التوقيت الإستراتيجي وتداعياته
يثير توقيتُ هذه العقوبات تساؤلاتٍ حول مدى فعاليتها. والواقع أن العقوبات الجديدة تستهدف قطاع الطاقة الروسي الحاسم، مع التركيز بشكل خاص على شركات كبرى مثل غازبروم نفت وسورجوتنفت غاز.
كما تم إدراج العشرات من السفن التي تحمل النفط في القائمة السوداء. والهدف واضح: الحدّ من تدفقات الإيرادات الروسية التي تشكل أهمية حيوية لتمويل عمليات موسكو العسكرية في أوكرانيا.
ومن خلال اتخاذ هذه الخطوة، يعزّز بايدن التزامَ إدارته بدعم أوكرانيا، وهو موقفٌ يتماشى على نطاق واسع مع حلف شمال الأطلسي والحلفاء الأوروبيين.
وبالنسبة للرئيس دونالد ترامب، قد تؤدي هذه الخطوة إلى تعقيد قدرته على إعادة تشكيل العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا.
فخلال فترة ولايته السابقة، اتّسم نهج ترامب تجاه موسكو بمزيج من البراغماتية والجدل، والذي غالباً ما يبتعد عن الموقف المتشدّد الذي يفضّله الكثيرون داخل مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية.
ومع فرْض هذه العقوبات الجديدة، يواجه ترامب معضلة: فالحفاظ عليها يخاطر بإدامة التوترات مع روسيا، في حين قد يُنظَر إلى تخفيفها أو إزالتها على أنه تقويض لأوكرانيا وتَحالفٌ بشكل وثيق مع موسكو.
وتحدّ هذه الدينامية فعلياً من مرونة الرئيس المنتخَب. ومن المرجح أن تثير أي خطوة لعكْس العقوبات انتقاداتٍ من الجهات الفاعلة المحلية والدولية، بما في ذلك الكونغرس والحلفاء الأوروبيون، الذين يدعم العديد منهم موقفاً قوياً ضد روسيا.
ومن خلال فرْض هذه العقوبات، عزّز بايدن هذا الالتزام باعتباره حجر الزاوية في السياسة الخارجية لإدارته من دون استبعاد أن يتم النظر إليها على أنها مناورة حزبية. إذ يفرض هذا القرار ضغوطاً على إدارة ترامب المقبلة للحفاظ على الاستمرارية، ذلك أن عَكْسَ أو تخفيف هذه التدابير يتطلب مبرراً كبيراً، سواء على المستوى المحلي أو الدولي. وقد يُفسَّر مثل هذا التراجع على أنه انحراف عن الدعم الثابت لأوكرانيا ما قد يُضعف صدقية الولايات المتحدة على الساحة العالمية.
التداعيات على أوروبا
تحمل العقوبات المفروضة على قطاع النفط والغاز في روسيا عواقب وخيمة على أوروبا التي تَعتمد في شكل كبير على إمدادات الطاقة الروسية.
وفي حين قطعت الدول الأوروبية خطواتٍ واسعةً في الحد من اعتمادها على الطاقة الروسية منذ بدء الصراع في أوكرانيا، تظل روسيا مورداً رئيسياً لبعض الدول، وخصوصاً في وسط أوروبا وشرقها.
وقد تؤدي العقوبات إلى تَفاقُم نقص الطاقة الحالي، ولا سيما خلال أشهر الشتاء عندما يكون الطلب في أعلى مستوياته. ويمكن أن تواجه دول مثل المجر وسلوفاكيا، التي لا تزال تَعتمد على الغاز الروسي، انقطاعاتٍ كبيرةً في إمدادات الطاقة.
ولمواجهة هذه المخاطر، زادت الدول الأوروبية من وارداتها من الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة وغيرها من المصادر، ولكن البنية الأساسية المطلوبة لاستبدال الغاز الروسي بالكامل لا تزال قيد التطوير.
كما أن تكاليف الطاقة المرتفعة الناتجة عن انخفاض الإمدادات الروسية يمكن أن تَتَسَبَّبَ بإجهاد الاقتصادات الأوروبية، وخصوصاً في الصناعات التي تَعتمد على الطاقة بأسعار معقولة. وقد تواجه قطاعات التصنيع في دولٍ مثل ألمانيا عيوباً تَنافسيةً.
ومن شأن الضغوط التضخمية المرتبطة بأسعار الطاقة أن تؤثر بشكل أكبر على الأُسَر والشركات، ما يعقّد جهود التعافي الاقتصادي بعد الوباء.
وإلى جانب استهداف روسيا بشكل مباشر، مدّدت إدارة بايدن عقوباتها لتشمل المورد الرئيسي للغاز في صربيا، شركة نفطنا إندوستريا صربيا (NIS).
وتحت سيطرة شركتي الطاقة الروسيتين العملاقتين غازبروم نفت وغازبروم، تلعب شركة نيش دوراً أساسياً في دعم اقتصاد صربيا. وقد أعرب الرئيس الصربي ألكسندر فوسيتش عن مخاوفه الشديدة، ووصف هذه العقوبات بأنها ضربة خطيرة لأمن الطاقة والإطار الاقتصادي للبلاد.
ومن هنا فإن التدابير التي تهدف إلى الحد من النفوذ الروسي في البلقان، تزيد من تعقيد الموقف الجيوسياسي الحساس لصربيا.
الخلاصة
تفرض الدول الديمقراطية العقوبات في شكل انتقائي. وغالباً ما تفلت البلدان التي تتوافق مع مصالحها الجيوسياسية من التدقيق على الرغم من الممارسات غير الديمقراطية. وهذا التناقض يقوّض صدقية العقوبات كأداة مفترَضة لتعزيز الديمقراطية.
وتستهدف العقوبات الاقتصادات، غالباً بطرقٍ تعطي الأولوية لمصالح القوى العظمى على المُثُل الديمقراطية.
وعلى سبيل المثال، تخدم عقوبات الطاقة المفروضة على روسيا الغرضَ المزدوج المتمثّل في معاقبة العدوان وتعزيز هيمنة حلفاء الغرب على سوق الطاقة، مثل الولايات المتحدة كمصدر للغاز الطبيعي المسال.
ومع استعداد دونالد ترامب لتولّي منصبه، فإنه يَرِث مشهداً جيوسياسياً صعباً تشكله جزئياً هذه العقوبات. وسواء اختار الحفاظ عليها أو تعديلها أو عكْسها، فلن يحدّد ذلك إدارته فحسب، بل سيحدد أيضاً مستقبلها.
0 تعليق