السعودية.. والدبلوماسية الذكية

جريدة عكاظ 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
ربما بدا لكثيرين أن التغيّرات المتسارعة التي تشهدها المنطقة كأنما هي وليدةُ فُجَاءةٍ، وبِنْتُ لحظتِها. ولو تأمل المراقب جيداً فسيجد أن السعودية عملت بدأب واجتهاد وعلى مدى سنوات لمواجهة التحديات الكبيرة لكي تحدث تلك التغيرات الكبيرة.

سمِّها ما شئت. لكنها بعبارة منطقية قصيرة، تلك ثمار دبلوماسية ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز.

وهي دبلوماسية لا مكان فيها لردود الأفعال المتسرعة، أو أصحاب المصالح الضيقة. ولعل أهم ما يمكن وصفها به أنها دبلوماسية فيها متّسع كبير للصبر والصبر. وتنبع أساساً من الحرص على مستقبل وأمن المنطقة، التي تعد السعودية أحد أطرافها القوية الفاعلة والمؤثرة.

ذلك الصبر، مصحوباً بالحنكة، والتّسامي على ما يثيره «الناعقون»، أدّى إلى الحل الذي رأيناه في لبنان، حيث توافق اللبنانيون بغالبية استثنائية على انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية، إثر شغور استمر 26 شهراً. صحيح أن التغيير في لبنان تأتّى بفعل عوامل عدة؛ أبرزها اضمحلال قوة حزب الله اللبناني ودوره، وهروب بشار الأسد من دمشق لينهار نظامه، الذي ظل يهيمن على لبنان منذ عهد والده حافظ الأسد في ثمانينات القرن الـ 20. كما أن التناغم السعودي مع العراق أقنع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بأن استمرار فوضى الكتائب والمليشيات المسلحة سيحكم على العراق بالاضطراب والزعزعة واللا استقرار. ولهذا أقدم السوداني على استحداث خطة حصر السلاح بيد الدولة العراقية. ووجد السوداني الظرف ملائماً ليواجه جارته بخطته لنزع سلاح المليشيات، التي تلعب أوراقها لمصلحة قوة أجنبية.

وسارعت دبلوماسية ولي العهد السعودي إلى حماية التغيير في سورية، بعد فرار الأسد. فقد حذّرت المملكة من مغبة الانجرار للماضي، والتمسك بأيديولوجيا كُتِب لها الفناء. وأوفدت المملكة وفودها المتتالية إلى دمشق الحرة، للتشاور، وتقديم الدعم والعون الإغاثي والإنساني للشعب السوري الشقيق. ولهذا اختارت الإدارة السورية الجديدة أن تكون السعودية أول محطة خارجية لوزير خارجيتها. وفي لبنان لم يكن التغيير سهلاً. فقد بذلت الدبلوماسية السعودية جهداً جباراً لإقناع الفرقاء اللبنانيين بتوافق ينهي شغور قصر بعبدا. ودعت الرياض بشدة صوب توافق على اختيار قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً للبلاد. وقد أوضح الأخير بجلاء، في كلمته بعد أداء اليمين الدستورية أمام أعضاء مجلس النواب، أن لبنان سيعود إلى انتمائه العربي، وإلى استعادة علاقاته مع أشقائه العرب، خصوصاً السعودية التي ظلت طوال التاريخ المعاصر تدعم استقرار لبنان، واقتصاده، وأمنه، مؤكداً على أن الدولة من ستحتكر حمل السلاح. ولهذا لم يكن مفاجئاً أن يعلن الرئيس عون، من قصر بعبدا، أن السعودية ستكون محطته الخارجية الأولى بعد تنصيبه.

صحيح أن الأمير محمد بن سلمان منشغل بتحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030، وهي أجندة تتوزع بين الاقتصاد، والسياسة، والإصلاح الاجتماعي، والاستثمار، وغير ذلك. لكنه ظل مهموماً بالقضايا العربية وحلحلة الأزمات ومواجهة التحديات الكبيرة. وظل يحذّر من مغبة الاضطراب في المنطقة في كل مناسبة. وهي تحذيرات لا تقتصر على إبداء المخاوف وحدها؛ بل أردفها بعمل دبلوماسي لا يعرف التثاؤب. فعندما ترأس ولي العهد القمة العربية - الأمريكية في جدة في عام 2022 أبلغ القادة العرب والرئيس الأمريكي المنتهية ولايته جو بايدن بأن التعامل مع تحديات المنطقة والعالم يتطلب التعامل بـ «واقعية ومسؤولية». وتطلع الأمير محمد بن سلمان إلى «مرحلة جديدة نبعث فيها الأمل لشبان وشابات المنطقة بمستقبل مشرق». وشدّد ولي العهد على أن «اكتمال منظومة الأمن والاستقرار والازدهار في المنطقة يتطلب إيجاد حلول سياسية واقعية للأزمات الأخرى» (ليبيا، السودان، سورية، العراق).

وأمام القمة العربية التي استضافتها السعودية في جدة في 19 مايو 2023، أطلق ولي العهد السعودي أقوى تحذيراته من الراهن العربي. وقال: «لن نسمح بأن تتحول منطقتنا ميداناً للصراعات». وأضاف: «نؤكد أننا ماضون للسلام، والخير، والتعاون». هكذا هي بصيرة قائد عربي سعودي شاب. وتلك هي مُثُلُه وقيمُه التي تعمل بها دبلوماسية بلاده. وما تحقق من تغيّرات في المنطقة لم يأتِ فجأة؛ بل تطلّب من الدبلوماسية السعودية التمسّك بالحوار والصبر، على رغم الأشواك، والمؤامرات، ومحاولات تشويه المواقف السعودية، وهو كفاح لن يتوقف لمجرد وقوع التغيير في سورية، ولبنان، والعراق؛ بل سيتواصل من أجل القضية المركزية - قضية فلسطين، وإحلال سلام دائم في السودان، والتوصل إلى حلٍّ سلمي في اليمن لكي يعود «السعيد».

الأكيد أنه في ظل سلام واستقرار يسودان المنطقة من الخليج إلى المحيط سيكون الصوت الأعلى لشعوب المنطقة للتنمية، والازدهار، والتعاون البنّاء. وليس للحروب، والخصام، والاستقواء بالقوى التي كانت ساعية إلى الهيمنة، وتعطيل مصالح الشعوب العربية... التي آن لها أن تحلم بمستقبل مشرق... وسيذكر التاريخ للأمير محمد بن سلمان تلك الجهود الرفيعة، والأهداف النبيلة، والدبلوماسية الذكية.


إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق