د. علي محمد الصّلابي
هذا الكتاب امتداد لما سبقه من كتب درست عهد النبوة وعهد الخلافة الراشدة، وقد صدر منها «السيرة النبوية.. عرض وقائع وتحليل أحداث»، «أبو بكر الصديق»، و«عمر بن الخطاب»، و«عثمان بن عفان»، و«علي بن أبي طالب»، و«الحسن بن علي»، رضي الله عنهم جميعا، وقد سميت هذا الكتاب «عمر بن عبد العزيز.. معالم التجديد والإصلاح الراشدي على منهاج النبوة»
وهو جزء من الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، والكتاب يتحدّث عن عهد الإصلاحي عمر بن عبد العزيز، فتحدّثتُ عن حياته وسيرته وطلبه للعلم وعن أهم أعماله في عهد الوليد وسليمان، وعن خلافته وبيعته ومنهجه في إدارة الدولة، واهتمامه بالشورى والعدل وسياسته في رد المظالم وعزل جميع الولاة الظالمين، ورفع المظالم عن الموالي وأهل الذمة، وإقامة العدل لأهل سمرقند وعن الحريات في دولته، كالحرية الفكرية والعقدية والسياسية والشخصية، وحرية التجارة والكسب، وذكرتُ أهمّ صفاته، كشدة خوفه من اللهِ تعالى، وزهده، وتواضعه، وورعه، وحلمه وصفحه وعفوه، وصبره، وحزمه، وعدله وتضرّعه ودعائه واستجابة الله له، وتحدّثتُ عن معالم التجديد عند عمر بن عبد العزيز، كالشورى، والأمانة في الحكم وتوكيل الأمناء، وإحيائه مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومبدأ العدل، وعن شروط المجدد، كأن يكون معروفًا بصفاء العقيدة وسلامة المنهج، وأن يكون عالما مجتهداً، وأن يشمل تجديده ميدان الفكر والسلوك، وأن يعم نفعه أهل زمانه، وتكلمت عن اهتمام عمر بن عبد العزيز بعقائد أهل السنة والجماعة، في توحيد الألوهية وفي باب أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وفي مفهوم الإيمان، والإيمان باليوم الآخر والمعتقدات الغيبية، كعذاب القبر ونعيمه والمعاد، والميزان والحوض والصراط والجنة والنار، ورؤية المؤمنين ربهم في الجنة والدعوة للاعتصام بالكتاب والسنة وسنة الخلفاء الراشدين، وموقفه من الصحابة والخلاف بينهم وموقفه من أهل البيت. وتحدّثتُ عن معاملته للخوارج والشيعة والقدرية وعن حياته الاجتماعية، واهتمامه بأولاده وأسرته ومنهجه في تربيته لأولاده كاختيار المعلم والمؤدب الصالح، وتحديد المنهج العلمي، وتحديد طريقة التأديب والتعليم، وتحديد أوقات وأولويات التعليم، ومراعاة المؤثرات التعليمية، وعن نتائج ذلك المنهج وتأثر ابنه عبد الملك به، وتكلمت عن حياته مع الناس، واهتمامه بإصلاح المجتمع، وتذكيره الناس بالآخرة، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، وإنكاره العصبية القبلية، وتقديره لأهل الفضل وقضائه ديون الغارمين، وفكّ أسرى المسلمين، وإغنائه المحتاجين عن المسألة، ودفع المهور من بيت المال، وجهوده في التقريب بين طبقات المجتمع، ومعاملته للشعراء، واهتمامه الكبير بالعلماء، ومشاركتهم الفعالة معه لإنجاح مشروعه الإصلاحي، فتقربوا منه وشدوا أزره للسير في منهجه التجديدي، وتعهدوه بالنصح والتذكير بالمسؤولية، واستعدادهم لتولي مختلف مناصب الدولة وأعمالها، وتحدّثتُ عن المدارس العلمية في عهده وعهد الدولة الأموية، كمدرسة الشام والحجاز، والعراق ومصر.. إلخ، وعن منهج التابعين في تفسير القرآن الكريم، وجهودهم في خدمة السنة، ودور عمر بن عبد العزيز في تدوينها، وأشرتُ إلى منهج التزكية والسلوك عند التابعين، وأخذتُ مدرسة الحسن البصري مثالاً على ذلك فتحدّثتُ عنها وعن تلاميذها كأيوب السختياني، ومالك بن دينار، ومحمد بن واسع، وبيّنتُ براءة الحسن البصري من الاعتزال، وتحدثت عن علاقة الحسن البصري بعمر بن عبد العزيز ورسائله إليه، التي يبيّن فيها صفات الإمام العادل في نظره، وذكرتُ موقف عمر بن عبد العزيز وأسباب رفعه لحصار القسطنطينية واهتمامه بالدعوة الشاملة، ووضعه لقانون التفرغ للدعاة والعلماء وحضّه على نشر العلم وتعليمه وتوجيه الأمة إلى أهميته، وإرسال العلماء الربانيين في شمال أفريقيا وغيرها لتعليم الناس وتربيتهم على الكتاب والسنة، وإرساله الرسائل الدعوية إلى الملوك بالهند وغيرها، وتشجيعه غير المسلمين على الدخول في الإسلام.
وأفردتُ مبحثاً لإصلاحاته المالية وسياسته الحكيمة في ذلك، وحرصه على ترسيخ قيم الحق والعدل ورفع الظلم، فبيّنتُ أهداف السياسة الاقتصادية عنده، من إعادة توزيع الدخل والثروة بشكل عادل، وتحقيق التنمية الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية، وأشرتُ لتحقيق تلك الأهداف كتوفير المناخ المناسب للتنمية ورد الحقوق لأصحابها وفتح الحرية الاقتصادية بقيود، واتباع سياسة زراعية جديدة تمنع بيع الأرض الخراجية، وتعتني بالمزارعين وتخفف الضرائب عنهم، وحثّ الناس على الإصلاح والإعمار وإحياء أرض الموات، وتوفير مشاريع البنية التحتية، وتحدّثتُ عن سياسته في الإنفاق العام، كإنفاق عمر على الرعاية الاجتماعية وترشيد الإنفاق في مصالح الدولة، كقطع الامتيازات الخاصة بالخليفة وبأمراء الأمويين، وترشيد الإنفاق الإداري والحربي.
وتكلّمتُ عن المؤسسة القضائية في عهده وبعض اجتهاداته الفقهية كرأيه في الهدية لولاة الأمر ونقض الأحكام إذا خالفت النصوص الشرعية، وغير ذلك من الاجتهادات الفقهية والقضائية. وتحدّثتُ عن سياسته الإدارية وأشهر ولاته وحرصه على انتقاء عمّاله من أهل الخير والصلاح، وإشرافه المباشر على إدارة شؤون الدولة، وعن قدراته في التخطيط والتنظيم، وعن أسلوبه في الوقاية من الفساد الإداري، كالتوسعة على العمّال في الأرزاق وحرصه على الوقاية من الكذب، والامتناع عن أخذ الهدايا والهبات، والنهي عن الإسراف والتبذير، ومنع الولاة والعمال من ممارسة التجارة، وفتح قنوات الاتصال بين الوالي والرعية، ومحاسبته للولاة من قبله عن أموال بيت المال، وتطرّقتُ إلى مفهومِ المركزية واللامركزية في إدارة عمر بن عبد العزيز واهتمامه بمبدأ المرونة، وتوظيفه للوقت في خدمة الدولة والرعية، وممارسته لمبدأ تقسيم العمل في الإدارة، وحرصتُ على بيان بواعث عمر بن عبد العزيز في إصلاحه وتجديداته المالية والسياسية والإدارية.. إلخ، وأشرتُ إلى حرصه على تنفيذ أحكام الشريعة على الدولة والأمة والمجتمعات والأفراد، وأشرتُ إلى آثار التمسك بأحكام القرآن الكريم والسنة النبوية وهدي الخلافة الراشدة على دولتهِ، من التمكين والأمن والاستقرار، والنصر والفتح، والعز والشرف وبركة العيش ورغده، وعشت مع الأيام الأخيرةِ من حياة هذا المصلح الكبير حتى وفاته.
إن ظهور عمر بن عبد العزيز في تلك المرحلة التاريخية الحرجة من تاريخ الأمة، ومحاولته العظيمة للعودة بالحياة إلى تحكيم الشريعة وآفاق الخلافة الراشدة الملتزمة بمعطيات القرآن والسنة، ظاهرة فذة تحمل في دلالتها ليس على بطولة القائد فحسب، وإنما على قدرة الإسلام نفسه على العودة باستمرار لقيادة الحياة السياسية والتشريعية والحضارية في نهاية الأمر، وصياغتها بما ينسجم ومبادئه الأساسية.
حجة تاريخية
إن خلافة عمر بن عبد العزيز حجة تاريخية على من لا يزال يردد الكلمات والأصوات القائلة: إن الدولة التي تقوم على الأحكام الإسلامية والشريعة عرضة للمشاكل والأزمات وعرضة للانهيار في كل ساعة، وإنها ليست إلا حُلماً من الأحلام ولا يزال التاريخ يتحدى هؤلاء ويقول لهم: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة البقرة: 111].
إن سيرة عمر بن عبد العزيز تمدّنا بالمفهوم الصحيحِ لكلمة الإصلاح، للمفهوم القرآني الأصيل الذي فهمه علماؤنا المصلحون فهمًا صحيحًا وطبّقوه تطبيقا سليماً، لا المفهوم الغربي الحديث الذي تسرّب إلى أذهان بعض المفكرين السياسيين المقلدين للغرب في حقّه وباطله حتى أصبح من المسلم به عند كثير من أبنائنا اليوم أن الثورة أعمّ وأشمل وأعمق من الإصلاح الذي يرادف في الغرب معنى التغيير الخفيف الذي يحدث بتدرج ومن دون عنف، بينما الثورة هي عندهم انقلاب جذري دون تدرّج، عنيف ومفاجئ، وما دروا أن الإصلاح بالمفهوم القرآني الصحيح له معنى أشمل وأعمّ وأكبر من الثورة، فهو دائماً نحو الأحسن والأكمل، بينما الثورة قد تكون من الصالح إلى الفاسد أصلاً، ويتم ذلك بتغيير سلطة بسلطة وحاكم بحاكم.
إن عمر بن عبد العزيز نموذج إصلاحي لمن يريد السير على منهاج النبوة وعهد الخلافة الراشدة، ولقد أخلص لله تعالى في مشروعه الإصلاحي فتولى الله توفيقه وأطلق ألسنة الناس بمدحه والثناء عليه.
0 تعليق