البيئة في الإسلام.. رؤية متوازنة وتعاليم راسخة 

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

محليات

6

05 مارس 2025 , 04:34م
alsharq

الدوحة - قنا

في خضم التحديات التي تواجه البشرية جراء عبث الإنسان بالطبيعة وتعاطيه غير المتوازن معها، وفي ظل الدعوات التي تنطلق اليوم من هنا وهناك للرفق بالأرض، وإنقاذ الكوكب، تظل رؤية الإسلام في الحفاظ على البيئة تتسم بالتوازن والشمولية، فهو يكرس وجودا متوازنا بما يصون الحياة ويشجع على الاستدامة.

فنظرة الإسلام إلى البيئة تتجلى في تقريره أن هذه البيئة ليست مجرد منظومة مؤلفة من عناصر الطبيعة بل هي تجسيد لعلاقة الإنسان بخالقه، وهي علاقة تتجاوز الحدود المادية، لتصل إلى فضاءات الروح، حيث علمنا الإسلام أن الأرض وما عليها، من هواء وأشجار وجبال وأنهار وبحار، ليست ملكا للإنسان، بل ملك لله تعالى سخرها لبني البشر لتحقيق مفهوم الاستخلاف، فهي مصدر البقاء والحياة لتحقيق العبودية لله في إطار هذا الاستخلاف.

وعند التأمل في تاريخ الإنسانية الطويل، نجد أن العديد من الشرائع والثقافات قد تناولت البيئة والحفاظ عليها، لكن ما يميز الإسلام هو أنه كان سباقا في وضع الأسس والقواعد الواضحة لحمايتها، وهي أسس وقواعد لا تقتصر فقط على تجنب الأذى، بل تدعو إلى احترام البيئة وعناصرها، وإقامة علاقة متوازنة مع الأرض وما عليها، ووفق مبادئ تتماشى مع حاجات الإنسان والطبيعة في آن واحد.

وفي هذا قال الدكتور فضل مراد أستاذ الفقه وقضاياه المعاصرة بجامعة قطر: إن للشريعة الإسلامية موقفا صارما في محاربة الإفساد البيئي، تمثل بمصفوفة من التعاليم والآداب والواجبات، انطلاقا من أن البيئة والحياة والإنسان والاستخلاف تشكل أركان الحياة البشرية على الأرض.

وأضاف، في حديث لوكالة الأنباء القطرية /قنا/، أن "اختلال أي واحد من هذه الأربعة يعود بالضرورة على اختلال البقية، والبيئة في مقدمة هذه الأمور، فمما لا شك فيه أن اختلالها ينعكس على الحياة كلها لذلك وضعها الله صالحة للعيش والاستخلاف، ونهى عن الإفساد فيها، حيث قال سبحانه: "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها"، وحذر غاية التحذير من عواقب الإفساد بقوله: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون".

وأوضح الدكتور فضل مراد مرامي هذا التحذير القرآني قائلا: "إن هذا النص القرآني يلخص مدى اهتمام الشريعة بالبيئة برها وبحرها، والتي تشكل عوامل الحياة الاستخلافية على وجه البسيطة. ومع أن الشرع يحارب الفساد بكل أنواعه وأشكاله وبسط البيان فيه، لكنه خصص للإفساد البيئي مساحة تشريعية مستقلة تكشف آثاره وأسبابه لما له من أهمية قصوى".

وأشار إلى أن "العالم اليوم يعاني من الفساد في الأرض بأنواعه، فالحياة البحرية والبرية والغلاف الجوي والحياة النباتية قد مسها الضرر والخطر بسبب استفحال التصرفات غير المسؤولة التي صاحبت الطفرة الصناعية.. ولخطورة هذا الأمر فقد حدثت انتفاضة دولية على أعلى المستويات وعقدت المؤتمرات واستعرضت الدراسات التي تكشف مدى الكارثة التي تنتظر العالم بأكمله نتيجة للإفساد البيئي".

ولخص أستاذ الفقه وقضاياه المعاصرة بجامعة قطر موقف الإسلام من الإفساد البيئي بالقول: "الإسلام يجرم الإفساد في الأرض بكافة صوره وأشكاله.. ويوجب الحفاظ على البيئة من الفساد، وشرع تعاليم كثـيرة، منهـا الواجبـة والمندوبـة والضـرورية والتحسينية لدفع الفساد عنها".

ومن جانبها، أكدت الدكتورة خديجة حمادي العبد الله، رئيس قسم الدراسات الإسلامية، بكلية المجتمع أن الإسلام أمر بتعمير الأرض وإحيائها، ونهى عن الإفساد فيها، ولذلك فهو يولي عناية فائقة بحماية البيئة ورعايتها، ويقدم منهجا شاملا للتعامل مع مختلف عناصرها.

وأوضحت لـ/قنا/ أن الله تعالى خلق الكون في توازن دقيق، ودعا إلى الحفاظ على هذا التوازن البيئي، وأمر الإنسان بالمحافظة عليه، قال تعالى: "والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان"، ولهذا نهى الإسلام عن التبذير والإسراف في استهلاك الموارد الطبيعية، كما في قوله تعالى: "ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين".

وأشارت في هذا السياق، إلى بعض مظاهر عناية الإسلام بالبيئة، ومنها نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسراف في الماء "ولو كنت على نهر جار"، وأمره عليه الصلاة والسلام بإماطة الأذى عن الطريق، ونهيه عن قطع الأشجار دون حاجة، وحثه على غرسها بقوله: "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة".

وأضافت: "بناء على ما سبق، يمكن القول إن الإسلام يقدم فقها بيئيا شاملا يستند إلى القرآن والسنة، ويوجه الإنسان نحو الاستخدام العادل والمسؤول لموارد البيئة بما يحقق مفهوم الاستخلاف".

ونوهت بأن هذه القواعد والتعاليم الإسلامية في الحفاظ على البيئة تجسدت على أرض الواقع في الحضارة الإسلامية، ويشهد تاريخ المسلمين منذ عهد النبوة، كيف طبق المسلمون هذه التعاليم، ليقدموا للعالم نماذج خالدة حتى عصرنا الحاضر، "وقد تجلى ذلك في إنشاء الحدائق والبساتين، وتطوير أنظمة الري، والحفاظ على الموارد الطبيعية، والاهتمام بالنظافة العامة، وتجنب تلويث المياه، حيث ظهرت في المدن الإسلامية شبكات للصرف الصحي، وساحات خاصة بالنظافة، كما تمت إقامة المحميات الطبيعية لحماية الحيوانات والنباتات ومنع التعدي عليها، وتم تخصيص أوقاف لزراعة الأشجار وحماية المساحات الخضراء".

وبدوره أكد الدكتور إسماعيل العدوي، أستاذ الثقافة الإسلامية بكلية المجتمع، على منهجية الإسلام المتميزة ورؤيته الفريدة في التعامل مع البيئة.. "فالأحكام الفقهية من جهة هي المؤسسة لهذه الرؤية ومن جهة أخرى هي منعكسة عن المفاهيم والأصول والنصوص الشرعية ذات الصلة".

وأوضح أن من الأصول الشرعية في الحفاظ على الموارد والمقدرات، النهي عن الإفساد في الأرض ومعناه في هذا السياق الإتلاف يقول تعالى: "وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" أي قصد وتوجه ليفسد فيها والحرث هو الزرع وما يحتاجه الإنسان منه من قوت وطعام ونحوه، والنسل هو النتاج الحيواني الذي يحتاجه الإنسان، ويدخل في معنى ذلك المنافع الأخرى التي تبيحها الشريعة.

كما أشار إلى أن من الأصول النهي عن الإسراف "وهو مجاوزة الحد أو الحاجة من المباح لأن ذلك إتلاف للموارد من غير منفعة حقيقية راجعة للمسلم، ويدخل في ذلك جميع أنواع التصرفات من قطع زرع، أو ذبح حيوان، أو إيقاد نار، أو استعمال ماء فوق الحاجة، قال تعالى: "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين".

ومن الأصول الشرعية في الحفاظ على البيئة التي يشير إليها الدكتور العدوي ما جاء في الإسلام من رعاية النظافة، "وهذا يدخل في معنى الحفاظ على البيئة إذا نظرنا إليه من زاوية إصلاح المكان المحيط بالإنسان، ومن أمثلة ذلك الأمر بتنظيف الأفنية والدور والطرق ونحوها، وفي الحديث "إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود، فنظفوا أفنيتكم".. كما نهى عن تلويث المياه وإفساد أماكن تجمع الناس من ظل ومنتزه وطريق.

ولفت إلى أن هناك الكثير من الأحكام الشرعية التي تحارب التلوث، ومنها نهي الإسلام عن تلويث الماء الراكد حتى لا يفسده على الآخرين.. ويضيف "ويقاس على هذا ما هو أشد منه من القاذورات والنجاسات، مثل إفساد البيئة بالاستعمالات الضارة كالإشعاعات النووية والمواد الكيماوية والغازات الضارة المنبعثة ونحو ذلك".

وذكر أستاذ الثقافة الإسلامية بكلية المجتمع أن من الأصول الشرعية كذلك "أن كل ما في الأرض من مواد ومقدرات مخلوق للمسلم لينتفع به ويستغله لتحقيق المقصد من وجوده وهو عبادة الله، قال تعالى: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا" أي خلق ذلك لكم برا بكم ورحمة منه لكم لتنتفعوا وتعتبروا به.

وحول واجب المسلم تجاه البيئة في ضوء هذه التعاليم، أكدت الدكتورة العبدالله والدكتور العدوي على أن من واجب المسلمين اليوم تطبيق هذه التعاليم الإسلامية المتصلة بالبيئة، وإبرازها وترويجها عالميا مع تزايد الاهتمام العالمي بالقضايا البيئية في ظل التحديات التي تواجه المجتمعات اليوم جراء الفساد البيئي، الذي طال كل المكونات البيئية وعناصرها.

وفي هذا السياق، تقول الدكتورة خديجة العبدالله: "في ظل التزايد العالمي للاهتمام بقضايا البيئة، يتوجب على المسلمين اليوم إبراز تعاليم الإسلام المتعلقة بحماية البيئة من خلال نشر الوعي البيئي المستند إلى القيم الإسلامية".

وأضافت: "يمكن تحقيق ذلك عبر المناهج التعليمية، والخطب الدينية، ووسائل الإعلام، والمشاركة في المبادرات البيئية العالمية. كما ينبغي تعزيز مفهوم أن الحفاظ على البيئة هو جزء من العبادة والمسؤولية الدينية، مما يسهم في تقديم نموذج إيجابي يعكس رؤية الإسلام الشاملة للتعامل مع البيئة".

وتابعت: "يعد شهر رمضان فرصة مميزة لتعزيز الاستدامة والعناية بالأرض من خلال تبني ممارسات صديقة للبيئة، ومنها ترشيد الاستهلاك للموارد، وتجنب الإسراف في الطعام والشراب، واستخدام وسائل النقل المستدامة عند الذهاب إلى المساجد، والمشاركة في حملات تنظيف الأحياء، والتقليل من استخدام البلاستيك واستخدام بدائل صديقة للبيئة، كما يمكن الاهتمام بالمساجد الخضراء عبر الاعتماد على الطاقة الشمسية وتقليل النفايات".

كما تدعو إلى استثمار هذا الشهر، من خلال خطب الجمعة والدروس الرمضانية، في التوعية بنصوص الدين التي تؤكد على أهمية الحفاظ على البيئة، وتعزيز الشعور بالمسؤولية تجاه الأرض كجزء من العبادة والتقرب إلى الله.

ومن جانبه، أكد الدكتور العدوي أن الواجب على المسلمين الالتزام بتعاليم الإسلام، وأن يعلموا أن ذلك ليس فقط جانبا أدبيا وسلوكيا، بل هو عقيدة دينية منشؤها قبول ما أباحه الله للمسلم من موارد الأرض ومقدراتها، وترك ما حرم الله عليه من إفساد ونحوه، ثم هي أيضا ليست مجرد سلوكيات، بل هي عبادات الله تعالى وخضوع لأمره".

وشدد على ضرورة إحياء هذه المعاني آنفة الذكر في عقول المسلمين وقلوبهم وتصرفاتهم عبر وسائل الإعلام ومحاضن التعليم، وسن القوانين المؤكدة والمحققة لتلك الأحكام والمقاصد الشرعية.. كما أكد ضرورة أن يأخذ المسلمون بزمام المبادرة عالميا بما يتماشى مع تعاليم دينهم الحق ليظهر بذلك كمال وجمال الإسلام.

اقرأ المزيد

مساحة إعلانية

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق