استقامة واستدامة

24 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

حين حاولت صياغة محتوى رمضاني لحسابي، لم يدر في خلدي لحظتها إلا قوله تعالى: "وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا" (الجن١٦).

حاولت أن أستقي من دلالة الماء الذي وصفته الآية الكريمة بالغدق، تعبيراً عن مستوى الرفاه وجودة الحياة، وكلنا يعي ويدرك أن الماء يكاد يتشارك مع كل أهداف التنمية المستدامة الـ17 فضلاً عن تخصيص الهدف السادس بنظافته، و"إصحاحه" كما تعبر الوثيقة الأساسية (SDGs2030).

يمثل رمضان محطة روحية واجتماعية فريدة، ففيه تتجلى معاني الاستقامة في السلوك والقيم، كما يتعزز الوعي بأهمية التنمية المستدامة.

فالصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو مدرسة في تهذيب النفس، وترشيد الاستهلاك، وتحقيق التوازن في العادات اليومية، وهو ما ينسجم بعمق مع مبادئ الاستدامة التي تدعو إلى إدارة الموارد بحكمة ومسؤولية.

قال الله تعالى: "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين"(الأعراف31)، ما يعكس بوضوح العلاقة بين الاعتدال في المعيشة وتحقيق الاستدامة.

رمضان والتنمية المستدامة

رمضان ليس مجرد عبادة فردية، بل هو منظومة ثقافية تعيد تشكيل العادات والتقاليد نحو أنماط حياة أكثر وعياً ومسؤولية. تتجسد هذه الثقافة في قيم التكافل والتضامن، حيث يتجه المجتمع إلى دعم الفقراء، وإقامة موائد الإفطار الجماعي، والتبرع بالمال والوقت في أعمال الخير.

هذه الممارسات ليست مجرد أفعال موسمية، بل هي لبنة أساسية في التنمية المستدامة، التي تؤكد على تحقيق العدالة الاجتماعية، والقضاء على الفقر، وتعزيز الروابط المجتمعية.

ومن السنة النبوية، نجد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان أجود الناس في رمضان، كما ورد في الحديث: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان" (متفق عليه)، ما يعزز أهمية العطاء كجزء من التنمية المستدامة.

القناعة: جوهر الاستدامة

رمضان يعيد تشكيل علاقتنا مع الاستهلاك، إذ يدعو إلى القناعة والاكتفاء بالمقدار الضروري، بعيداً عن الإسراف والتبذير.

في هذا السياق، يعد ترشيد استهلاك الطعام والمياه أحد الجوانب الأساسية، التي يمكن أن تسهم في تحقيق الاستدامة، وقد أظهرت بعض الدراسات أن معدلات هدر الطعام تتضاعف في رمضان، رغم أن رسالة الصيام تدعو إلى تقليل النزعة الاستهلاكية، والتفكر في حاجات الآخرين، وعليه يمكن تبني مبادرات مثل إعادة توزيع الفائض الغذائي، وتقليل استهلاك البلاستيك في موائد الإفطار، واستبدال الأدوات غير المستدامة ببدائل صديقة للبيئة.

السلوك والممارسة الرمضانية

رمضان يشكل فرصة لتغيير العادات اليومية نحو نمط حياة أكثر توازناً، حيث يتحول الصيام إلى تجربة عملية لترشيد الموارد، وإعادة هيكلة الأولويات، ومن الممارسات التي تعكس هذا التحول:

- توفير الطاقة: من خلال تقليل استهلاك الكهرباء والمياه، خصوصا مع ترشيد استخدام المكيفات والإضاءة، في المساجد والمنازل.

- التقليل من المخلفات: عبر تقليل استخدام الأكياس البلاستيكية، والاعتماد على إعادة التدوير، وهو ما تبنته بعض الجمعيات الخيرية التي أطلقت حملات لتوزيع وجبات الإفطار، بطرق مستدامة.

- تشجيع النقل المشترك: فقد أطلقت بعض المدن مبادرات لتقليل الازدحام والاكتظاظ لدى بعض المساجد، ولدينا في الكويت ما يسمى المراكز الرمضانية ساعدت في "تبخير" الحشود التي كانت تتركز في مساجد محدودة، ساعد قربها من الناس في منع التلوث البيئي عبر حركة النقل في المساجد الكبرى خلال رمضان.

ختاماً، رمضان ليس مجرد موسم روحاني، بل هو فرصة لإعادة تشكيل العادات نحو نموذج أكثر استدامة.

إن الاستقامة في رمضان لا تقتصر على العبادة فقط، بل تمتد إلى نمط الحياة بأكمله، بما في ذلك طريقة استهلاكنا للموارد وعلاقتنا بالمجتمع.

فكل ممارسة مستدامة نبدأ بها في رمضان، سواء كانت في ترشيد الطعام، أو توفير الطاقة، أو تعزيز التكافل الاجتماعي، يمكن أن تستمر وتتحول من ثقافة إلى قناعة، وممارسة دائمة، تحقق التوازن بين الروحانية والتنمية المستدامة، لتجسد شعار "رمضان... استقامة واستدامة".

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق