.. حتى النبات لامس حسن السجايا

جريدة عكاظ 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
في عالم يعجّ بالقرارات المصيرية والاستراتيجيات الكبرى، يقف القادة العظماء على مفترق طرق بين ما هو كبير وما يبدو بسيطاً، بين ما يتطلب حسابات دقيقة وما ينبع من حسّ إنساني عميق. وهنا، تبرز قيمة القيادة الحقيقية، لا في رسم السياسات فحسب، بل في لمس تفاصيل الحياة اليومية، تلك التفاصيل التي تعكس جوهر الشخصية وأصالة الرؤية.

حين يوجّه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بتغيير موقع مشروع سياحي في نيوم لحماية نبتة نادرة، فهو لا يصدر مجرد قرار إداري عابر، بل يُرسي مبدأ، ويُرشد إلى منهج في الحكم قلّ من يتبناه. إنه ينظر إلى الأمور بعين الباني والمُخطِّط، لكن أيضاً بقلب الإنسان الذي يرى في رمزية نبتة صغيرة جزءاً من الهوية، وتعبيراً عن التوازن بين التنمية والحفاظ على البيئة.

كثيرون هم القادة الذين يضعون استراتيجيات كبرى، لكن قلة هم الذين يلتفتون إلى التفاصيل التي تعكس عمق رؤيتهم. فالحفاظ على نبتة قد يُنظر إليه كأمر بسيط، لكنه في جوهره رسالة أن التنمية لا تعني الإقصاء، والتقدم لا يعني الإلغاء، وأن للأرض ذاكرة لا ينبغي محوها لمجرد إقامة مشروع جديد. بل إن أعظم القرارات قد تتجسّد أحياناً في حماية رمز صغير، لأن الفكر الذي يحفظ التفاصيل هو ذاته الفكر الذي يُحدث تحولات كبرى.

وهذا النهج ليس جديدًا في مسيرة القيادة السعودية، فمنذ أن أرسى الملك عبدالعزيز آل سعود دعائم المملكة كان يدرك أن بناء الدولة لا يكون فقط من خلال القرارات السياسية والاقتصادية الكبرى، بل في العناية بكل تفاصيل الحياة اليومية، في حماية ما هو أصيل، وفي خلق التوازن بين التطوير والحفاظ على الهوية. لم يكن تركيزه فقط على توسيع المدن، أو إرساء الأمن، أو تطوير الاقتصاد، بل كان ينظر أيضاً إلى المياه التي يشربها الناس، والطرقات التي يسيرون عليها، والأراضي التي تزرع، والمراعي التي تحمي مصدر رزق أهلها.

قادة لم يهملوا التفاصيل الصغيرة

وهذه الفلسفة لم تقتصر على عصر دون آخر، فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثالاً للقائد الذي لا يغفل عن التفاصيل، حيث قال كلمته الشهيرة: «لو أن بغلة عثرت في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها، لمَ لمْ تمهد لها الطريق يا عمر؟». هذه النظرة تعبّر عن وعيه بأن العدالة ليست فقط في الأحكام الكبرى، بل تمتد حتى إلى مخلوقات لا تنطق، مثل بغلة تمشي على طريق غير ممهد.

وكذلك كان صلاح الدين الأيوبي، الذي لم ينشغل فقط بالمعارك الكبرى، بل اهتم بالبيئة والصحة العامة، فأمر بزراعة الأشجار لحماية المدن، وإنشاء المستشفيات، والعناية بالحيوانات الضالة، إدراكاً منه أن النهضة لا تُبنى بالسيف وحده، بل أيضاً بالرحمة والرعاية.

أما نابليون بونابرت، فقد أدرك أن القرارات الصغيرة قد تُغيّر مجرى التاريخ، فكان مهووساً بالتفاصيل، حتى أنه لاحظ معاناة جنوده من فساد الطعام أثناء الحملات العسكرية، فأطلق مسابقة لاختراع وسيلة لحفظ الأطعمة، مما أدى إلى ظهور التعليب، وهي فكرة أحدثت ثورة في مجال التموين العسكري والمدني.

رؤية ولي العهد: حيث تلتقي التفاصيل الكبرى والصغرى

اليوم، يأتي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ليواصل هذا النهج برؤية متجددة، تؤمن بأن القائد الحقيقي هو من يرى التفاصيل بقدر ما يرى الصورة الكبرى. قرار حماية «نبتة نيوم» قد يبدو في ظاهره تفصيلة صغيرة، لكنه يعكس فلسفة حكم شاملة، تؤكد أن التنمية لا تأتي على حساب الطبيعة، وأن الحفاظ على الرموز البيئية هو جزء من الحفاظ على الهوية الوطنية.

وهكذا، يثبت ولي العهد أن العناية بالتفاصيل ليست رفاهية، بل بُعد آخر من أبعاد القيادة الحكيمة، حيث تتساوى قيمة الإنسان والطبيعة في معادلة البناء والتطوير. وهذا ما يميز القائد الذي لا يرى الأمور بعيون الأرقام وحدها، بل يقرأ التاريخ في نبتة، ويرى المستقبل في جذورها الممتدة في أرض الوطن.

أخبار ذات صلة

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق