ينسب البعض لابن خلدون مقولة لم ترد حرفيا فى مقدمته تقول «إن الطغاة يجلبون الغزاة»، بما يعنى أن طول الاستبداد يُنشئ شعورا طاغيا بالمرارة يستحسن إزالة الحُكام بأى طريقة، حتى لو كانت دخول الأعداء والغزاة. واذا الرجل لم يقل ذلك نصا، فإنه قال ما هو قريب منه، وهو أن «الظُلم مؤذن بخراب العُمران».
وفى رأيه، فإن الشريعة (القانون وسيادته) لا يُمكن تطبيقها إلا بالمُلك (السلطة)، والمُلك لا يكمُل عزه إلا بالرجال ( كوادر الدولة)، ولا قوام للرجال فى الدولة إلا بالمال (تنمية الاقتصاد)، ولا سبيل للمال إلا بعمارة الأرض، ولا سبيل لعمارة الأرض إلا بالعدل.
وهذا ما كتب الله لنا أن نشهده ونُشاهده عند سقوط كُل طاغية وظالم فى بلادنا العربية، فنتساءل فى سذاجة: لِم لم يُحصّن الحاكم بلده بالعدل، وسيادة القانون؟ ولَم انشغل بجمع المال، وشراء الذمم وتصفية المُختلفين، وإشاعة الظُلم؟ لِم لم يتعلم من سابقيه وسابقيهم؟؟
حكم صدام حسين بلده بالحديد والنار والمخابرات. أسس لدولة بوليسية فريدة فى نُظمها القمعية، منع أى صوت خلاف صوته، أزاح كل صاحب رأى. لم يُعبّد الطرق الجديدة، ولم يُقم مصانع ومدارس كبرى، ولم يُرسل بعثات للتعليم فى العالم المُتمدن رغم أن الاقتصاد العراقى كان أعلى اقتصاد فى العالم فى مطلع الثمانينيات. أنفق صدام معظم إيرادات النفط على بناء جيشه (والهاء هُنا تعود على نفسه لا العراق)، ومؤسساته الأمنية، وأتاح لابنيه ورجاله العبث بكل شىء بالعراق كأنها عزبته. وبعد أكثر من عشرين عاما من القتل والتعذيب وغطرسة القوة، اختفى الجيش العراقى فى لحظات، كأنه لم يوجد، ودخل الأمريكان كما لو كانوا فى نُزهة. تسرّب القادة والسدنة وتواروا، واختبأوا كما يليق بفئران منبوذة، وحوكموا، وأعُدم صدام فى مشهد اعتيادى بمُحيطنا العربى كأن لم يكُن. وبعدها دخلت العراق أتون حرب أهلية مريرة، ولعب بها الغُزاة وتحكم فيها الجميع.
ما فعله نظام الأسد أبا وابنا شبيه بما فعله صدام، فقد استولى حافظ الأسد على السلطة فى 1970، وأسس نظاما قويا وعتيدا، وركز جهوده فى بناء سجون سرية، واستحداث أجهزة أمن متطورة، وخنق حرية التعبير. فى الثمانينيات ارتكب نظام الأسد مجازر بشعة ضد خصومه، قبل أن يُحول حُكم الجمهورية إلى وراثة ليرثه ولده بشار سنة 2000. ورغم كون بشار طبيبا مدنيا، إلا أنه سار على النهج ذاته: سحق الديمقراطية، والتخليد فى الحُكم، والتعامل مع سوريا كضيعة موروثة، كل ما فيها ملكه. أهدر بشار كما والده فرص التنمية والعمران والتطور، وحافظ على انغلاق البلاد. وكان أول مَن جلب الأجانب لقتل شعبه والحفاظ على دولته، ففتح الأبواب لعصابات فاجنر، وميليشيات إيران لسحق عظام خصومه. وعند أول اختبار حقيقى للقوة، فر كما يليق بزعيم عصابة انفض أفرادها. انخلع المسمار الصدئ من لحم سوريا، لكنه فتح جراحا يطول تعافيها. فلا شك أن سقوط نظام الأسد هو خبر مُفرح لكل أولئك الذين ذاقوا الظُلم عقودا، والمؤمنين بالإنسان فى كل مكان، لكنه خرج بثمن فادح إذ استولت جماعات دينية على الحكم، وهو ما يُثير مشاعر خوف من فوضى غير خلاقة، وضياع أمن، وهوان على الأعداء والغزاة.
ورحم الله الشاعر الكبير محمد مهدى الجواهرى الذى قال:
«قبل أن تبكى النبوغ المُضاعا/ سِبَّ مَن جر هذه الأوضاعا/ سِبَّ مَن شاء أن تموت وأمثالك/ هما وأن تروحوا ضياعا».. والله أعلم
0 تعليق