الوصاية على العقول (التفريق بين الهداية والتحكم)

مكة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تقمع ثقافة الوصاية على العقول بالأساس حرية الرأي وطرح الأسئلة، وتُحجّم مساحات الاختلاف والتنوع والنقد، لكن يبقى السؤال الأهم: هل تندرج الثقافة الإسلامية فعلا تحت هذا الإطار الاستبدادي لتصبح ثقافة وصائية تقيد العقول؟

بداية نرى أن الإسلام يعترف بمشروعية الاختلاف في الأمور التي تحتمل الاجتهاد. أما ما هو ثابت الدلالة والمعروف من الدين بالضرورة، فإن الاختلاف فيه غير جائز، وذلك استنادا لقوله تعالى "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم" (الأحزاب: 36).

وبهذا الإطار يشجع الإسلام على تنوع الآراء وازدهار المدارس الفكرية، وقال ابن القيم "إن للاجتهاد مساغ في المسائل التي لم يرد فيها نص قطعي، ولا ينكر على من اجتهد فيها"، كما يقول الإمام الشافعي "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، والتاريخ الإسلامي شاهد على تأسيس مدارس مختلفة مثل مدرسة الحديث والأثر ومدرسة الرأي والنظر، كما وتدعو النصوص الإسلامية بوضوح إلى إعمال العقل والتفكر في آيات الكون ومخلوقاته، كما في قوله تعالى "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب" (آل عمران: 190)، مما يعزز الانفتاح الفكري وإلغاء الوصاية على العقل.

ومن ناحية أخرى، تعكس طبيعة الحياة المتجددة ضرورة الرجوع إلى النصوص الشرعية مع ظهور قضايا مستجدة ومع ذلك، فإن الاجتهاد ليس حقا لكل فرد وإنما هو منوط بالعلماء المؤهلين، الذين يمتلكون القدرة العلمية والمعرفة الكافية لتفسير النصوص، وإن وجود هؤلاء العلماء لا يعني هيمنة مطلقة كما كانت الحال مع رجال الدين في أوروبا العصور الوسطى، بل يهدف إلى تقديم توجيه مدروس دون فرض وصاية فكرية.

تاريخيا كانت ثقافة الوصاية مفروضة على العالم الإسلامي من الخارج؛ فالاستعمار مثلا مارس هذه الثقافة من خلال التحكم في العقول والسيطرة على المجتمعات العربية والإسلامية، ثم جاءت السياسات الامبريالية لتفرض مفهوم الديمقراطية بوسائل إكراهية، كما يظهر في مشروع الشرق الأوسط الجديد.

وفي ظل التطور التكنولوجي والانتشار السريع للمعلومات أصبح من الضروري تعزيز ثقافة حرية التفكير والاستقلالية الفكرية، الأمر الذي يتطلب التغلب على ثقافة الوصاية وتبني استراتيجيات تربوية تقوم على تنمية التفكير النقدي وتشجيع الشباب على الحوار، كما يجب دعم التعليم الذي يقوم على الاستقلالية ويعزز مفهوم التفاعل بين الآراء بدلا من تقليدها دون فهم إلى جانب تعزيز دور المؤسسات الثقافية والإعلامية في نشر وعي حر ومتوازن.

ختاما، كانت الدعوة الإسلامية منذ نشأتها وحتى اليوم، ترفض التعصب والتطرف وتدعو إلى حرية الرأي واحترام التعددية والتنوع، وهذه المبادئ تنسجم تماما مع مشروعية الاختلاف وفق قواعد الاجتهاد، وتبرز كنموذج مُلهِم في مواجهة ثقافة الوصاية على العقول التي لا تزال تسعى لتقييد المجتمعات العربية والإسلامية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق