التحركات الفرنسية.. ومستقبل سوريا

مكة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
عادت فرنسا إلى خط قصف داعش الذي ظهر مؤخرا في سوريا، بعد أن توقفت عن طلعاتها الجوية منذ سبتمبر 2022م، أي قبل عامين مضت، ما أثار تساؤلات منطقية حول أهداف ونوعية وتوقيت هذه الضربات، التي لم تُحدث أي أثر يجعلنا نقتنع بأن ذلك يُعد استمرارا لاستراتيجيتها في مكافحة الإرهاب، وجزءا من التزامها لضمان عدم عودة التنظيم إلى قوته السابقة.

وبالنظر إلى حجم القوة النارية الفرنسية المستخدمة، أفادت تقارير بأن مقاتلات رافال ومسيرات "ريبر"، ألقت 7 قذائف على هدفين عسكريين لتنظيم الدولة "داعش". وفي المنظور العسكري، تكاد هذه العملية لا تذكر، أو بمعنى آخر هي عملية رمزية، ما يعطي دلالات على أن عودة العمليات العسكرية الفرنسية في سوريا، هي لمجرد تسجيل الحضور على الصعيد الدولي من الناحية السياسية.

صحيح أن فرنسا عضو في التحالف الدولي المعروف بـ"قوة المهام المشتركة"، التي تنفذ عملية أسمتها "عملية الشمال"، والتي تم تشكيلها في سوريا عام 2015م، وفي العراق عام 2014م، وأنها تأخذ بالاعتبار حماية أمنها القومي، ودعم الاستقرار في المنطقة ومواجهة تهديدات الإرهاب العابر للحدود، إلا أن عودتها بعد توقف دام أكثر من عامين لقصف داعش، وفي هذا التوقيت تحديدا، يدفعنا لقراءة المشهد بتمعن.

ولنبدأ بما أثاره زعيم ائتلاف اليسار ورئيس حزب "فرنسا الأبية" جون لوك ميلونشون، الذي أشار إلى غياب الشفافية في عملية ضرب تنظيم داعش، في إشارة واضحة منه إلى أن السياسة الخارجية الفرنسية تجاه سوريا تسعى إلى أهداف لم توضحها الحكومة، وهو ما جعل وزير الدفاع سيباستيان ليكورنو يرد بأن حديث ميلونشون غير مسؤول، وأنه يجب إظهار الوحدة في مواجهة الإرهاب.

وعند النظر في العملية العسكرية على داعش، التي لا تكاد تذكر مقابل العمليات الأخرى، كالتي تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية، في وقت يشهد فيه التنظيم اندثارا، فإنها تتزامن مع زيارة لوزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو للعاصمة دمشق، والذي عرض خلالها على السلطات الانتقالية السورية خبرة فرنسا القضائية والفنية لمساعدة الشعب السوري في صياغة الدستور الجديد، إضافة إلى دعم الاتحاد الأوروبي.

وفي الوقت نفسه يزور العاصمة اللبنانية بيروت وفد فرنسي لمراقبة اتفاق وقف إطلاق النار، بالإضافة إلى الضغط على الجهات الفاعلة اللبنانية، للوصول إلى انتخاب رئيس جمهورية في الموعد الذي سبق وأن حدده رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري، والمقرر في التاسع من يناير الجاري.

ومن هنا نأخذ بعين الاعتبار أن النشاط السياسي الفرنسي في لبنان لا يمكن له أن يكون بمعزل عن سوريا في أعقاب هروب نظام الأسد، فالذهنية السياسية الفرنسية تعد سوريا ولبنان دولة واحدة برأسين، وتنظر للدولتين على أنهما كانتا ضمن مستعمراتها، من خلال الانتداب الفرنسي، وهذا ما يدفع باريس لوضع يد في بيروت وأخرى في دمشق.

وامتدادا لذلك يمكن القول إن باريس تبحث اليوم عن دور كبير في المرحلة الانتقالية التي تعيشها سوريا، وتعزز ذلك سياسيا عبر عروض وزير خارجيتها، وعسكريا من خلال ضرباتها على داعش، وهو ما تعتقد باريس أنه سيؤدي إلى فسح المجال لها لإيجاد موطئ قدم لها في مستقبل سوريا، بما يشابه في الشكل والمضمون دورها في لبنان.

يؤكد ذلك تنظيم باريس لاجتماع دولي حول سوريا خلال يناير الجاري، الذي يصاحبه شروط والتزامات سياسية وأمنية تفرضها فرنسا على الإدارة السورية، لرفع العقوبات وتقديم مساعدات إعادة الإعمار، وهذا ما تسعى من خلاله إلى إقناع صناع القرار الجدد في سوريا بالدور الفرنسي، وبالتالي اكتساب أهمية لصوتها، بحثا عن فرص سياسية واقتصادية في مستقبل سوريا ما بعد الأسد، لا سيما في مجالات البناء، الطاقة، والخدمات العامة.

إن المعطيات المتواترة، تشي بأن العملية الجوية الفرنسية تبطن أهدافا سياسية لا عسكرية، وذلك يمكن استنتاجه من تدني حجم النار المستخدم ضد تنظيم داعش، ما يؤكد أن باريس لجأت للاختصار أو الرمزية لتعليق الجرس، الذي يؤدي رسالة مفادها "نحن هنا"، والدليل أن كلفة الوقود المستخدم للمقاتلات، أكبر من حجم فوائد الغارة نفسها.

والمقصد من هذا كله أن فرنسا تعد سوريا جزءا مهما في منطقة نفوذها في الشرق الأوسط، استنادا إلى الروابط التاريخية والثقافية، وبعد سقوط نظام الأسد، تعمل على تعزيز مساعيها لاستعادة دورها كلاعب أساسي في المنطقة، والمساهمة في تحقيق استقرار سياسي وأمني بما يضمن مصالحها ويعزز تأثيرها على الساحة الدولية، إلى جانب الوقوف كطرف استراتيجي ضمن موازين القوى الإقليمية والدولية في مرحلة ما بعد النظام، بعد أن كانت روسيا وإيران تستحوذان على النصيب الأكبر من النفوذ خلال مرحلة الأسد.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق