كتبت لكم في مقالتي السابقة عن الاختبار الأول للأمن القومي العربي الذي نجحت فيه الدول العربية بامتياز، عندما تصدت لأطماع عبدالكريم قاسم في دولة الكويت بعد استقلالها مباشرة من بريطانيا عام 1961.
والذي شاركت فيه عدد من الدول العربية كالسعودية ومصر والأردن والسودان والبحرين التي انطلقت من أراضيها القوات البريطانية تنفيذا للمعاهدة الدفاعية التي عقدت بين بريطانيا وحاكم الكويت الشيخ مبارك الصباح في يناير 1899 بهدف مقاومة القوات العثمانية. واستمرت هذا المعاهدة أساساً للعلاقات البريطانية- الكويتية حتى حصول الكويت على استقلالها عام 1961.
أما الاختبار الثاني فقد فكان بداية لمنعطف حاسم في التاريخ العربي المعاصر، ويمكن القول إنه كان نهاية النظام العربي بشكله القومي، وتثبيت النظام العالمي الجديد الذي دشنه جورج دبليو بوش الابن في جملته الشهيرة "حل حكم القانون بدلا من شريعة الغاب"، وبدء خطة الفوضى الخلّاقة فى 2011 التي اعدتها وزيرة الخارجية الاميركية الدكتورة كوندليزا رايس، وذلك بعد ان فشلت الامة العربية في التصدي لاطماع صدام حسين بعد غزوه للكويت في 2 أغسطس 1991، فقد كان هذا الاختبار قمة الفشل والسقوط لكل مبادئ الامن القومي العربي، والجامعة العربية بعد نجاح صدام في تحقيق اهدافه، واستقطاب عدد من الدول العربية في صفه، كالاردن وليبيا والجزائر وتونس ومنظمة التحرير الفلسطينية، وموريتانيا والسودان.
وقد وصلت الوفود العربية الى القاهرة في ذلك اليوم المشهود وسط حالة من الصدمة والفوضى، بما يعطي الدليل القاطع على العجز العربي التام امام ضخامة الحدث، وخطورته، وعدم إدراك صدام حسين للتداعيات الخطيرة التي ستقع على العراق والأمة العربية بسبب غزوه للكويت.
ووصول وفده دون تفويض للحل يؤمن الانسحاب العراقي من الكويت بلا شروط، والخطط الاميركية، التي تسابق الزمن نحو الحرب للقضاء على صدام حسين، ونظامه بعد العروض السينمائية، التي قدمها نائب الرئيس ديك تشيني لقادة دول "مجلس التعاون"، وعروض وزير الخارجية الاميركي في مجلس الامن التي اثارت المخاوف من امتلاك صدام حسين للسلاح النووي.
لذلك شهد اجتماع القمة العربية الذي دعا اليه الرئيس حسني مبارك في القاهرة بتاريخ 9 أغسطس 1991، أكبر انقسام عربي- عربي، وسقوط منظومة الامن القومي العربي ونهاية جامعة الدول العربية بلا رجعة.
فماذا جرى في ذلك الاجتماع؟
أستعرض معكم بعض ما ذكره الكاتب محمد حسنين هيكل "أما عن الاجتماع الذي كان مفروضاً أن تنعقد جلسته الأولى في اليوم نفسه، ولم يتيسر عقدها، والسبب ان الرياح كانت تهب في اتجاهات معاكسة، ولم يكن كل الملوك والرؤساء وصلوا لأسباب متعددة، منها أن الخطة الأميركية للحرب أصبحت واقعًا".
ويواصل هيكل فيقول في كتابه "وبعد جهد بدأت الجلسة الأولى في الساعة الحادية عشرة صباحا، وافتتحها الرئيس الراحل مبارك بخطاب عدّد فيه نقاطاً اعتبرها ركيزة حل وهي، إما عمل عربي فعال أو تدخل أجنبي، إن المظلة العربية هي المخرج الوحيد من المأزق، إن مبدأ استخدام القوة مرفوض داخل الأسرة الواحدة، إن الاستيلاء بالقوة على الأرض يشكل تهديداً جسيماً على الأمة، إن الأمن مطلب أساسي ولا غنى عنه للوجود أو للتطور، إن الشعور بالأمن يجب أن يتوافر لدى كل شعوب المنطقة، إننا لا بد أن نتحرك في إطار عالم اليوم، ونتحدث بلغته".
في الجلسة الثانية بلغت المأساة ذروتها بقول الرئيس مبارك: "لدينا مشروع قرار وزعناه في الصباح، وسوف أطرحه للتصويت الآن".
ويذكر هيكل: "ارتفعت أصوات من القاعة تناشده بتأجيل طرح القرار للتصويت، لأن المناقشة لم تستوف حقها بعد، والموضوع خطير، علق مبارك أنه لا يسمع مناقشة جادة، إنما يسمع مهاترات، وأن قراره كرئيس للجلسة هو طرح الموضوع للتصويت، وطلب من الموافقين أن يرفعوا أيديهم، وعد الأيدي المرفوعة، وقال: "حداشر" (أحد عشر) أغلبية موافقة، ثم أضاف: "ترفع الجلسة"، وقام من مقعده للخروج، وأصوات تناديه أن ينتظر، وكان أعلاها صوت ياسر عرفات، ومعمر القدافي، اما عن الملك حسين ملك الاردن الذي صوت ممتنعاً فيؤكد هيكل: "كان حسين يشعر وهو يدخل المؤتمر أن الموقف العربي شيء، وفي لحظة خروجه كان شعوره ميئوسا منه".
كان ذلك شكل الموقف العربي في ذلك اليوم الخطير، ذلك اليوم الذي شهد نهاية الامة العربية، ونهاية أمنها القومي، وسقوط معاهدة الدفاع العربي المشترك، ما شجع على انتهاك سيادتها الوطنية، واعداد الخطط الستراتيجية للقضاء على انظمتها في ما يعرف بعد ذلك بـ"الربيع العربي" 2011، الذي اطاح برؤساء عرب عدة لاعطاء الفرصة لـ"الاخوان المسلمين" ان يحكموا، ويسيطروا على الجناح الغربي للامة العربية في مصر وتونس وليبيا، بينما تطلق لايران حرية التدخل في الشؤون الداخلية العراق وسورية ولبنان واليمن ودول الخليج العربية.
موعدي معكم في المقالة المقبلة "الاختبار الثالث حول الامن القومي العربي".
كاتب بحريني، وكيل وزارة الخارجية لشؤون "مجلس التعاون" سابقًا
0 تعليق