قال عنه الأديب المدني الكبير الدكتور محمد العيد الخطراوي: «لقد كان - رحمه الله - شعلة من النشاط لا تهدأ، قضى حياته في خدمة العلم والفكر، فهو الإداري المحنك، والمربي الخبير، والمعلم القدير، وهو المؤرخ البارع، والناقد الفارع، والموسوعي الذي لا يشق له غبار، والشاعر الرقيق، والقاص الناقد البصير، والباحث المدقق، وليس على الله بمستبعد أن يجمع العالم في واحد».
ولد محمد بن (محمد سعيد) بن يحيى بن (محمد سعيد) بن عمر بن علي بن عبدالرحمن دفتردار (أو الدفتدار كما يلفظها المدنيون) الحنفي المدني بالمدينة المنورة في عام 1005 لأب هو الشيخ محمد سعيد دفتردار، الإمام في المسجد النبوي والموظف في أمانة خزينة المدينة المنورة والذي توفي قبل ميلاده، ولأم هي «زليخة بنت الشيخ محمد أسكوبي».
نشأ يتيماً في كنف جده داخل أسرة علم وفضل وتاريخ ونسب عريقين هي أسرة آل دفتردار، الذين يرجع أصلهم إلى جدهم العلامة «علي أفندي بن عبدالرحمن الرومي»، «الذي قدم إلى المدينة في حدود سنة 1140 للهجرة، وكان طالباً للعلم وبارعاً في المنطوق والمفهوم وصاحب ثروة وخط حسن وأخلاق رضية وكمالات مرضية وهمة عالية، وتوفي سنة 1184 للهجرة، وأعقب من الأولاد محمداً وأبا بكر وعمر»، بحسب ما قاله عبدالرحمن بن عبدالكريم الحنفي المدني الشهير بالأنصاري في الصفحة 52 من كتابه «تحفة المحبين والأصحاب في معرفة ما للمدنيين من الأنساب».
وقد ذكر المترجم له في حديثه عن جده «يحيى محمد سعيد بن عمر الدفتردار» (ولد في المدينة ونشأ بها وحضر فيها حلقات المسجد النبوي قبل أن يقصد الأستانة طلباً للعلم، حيث تعلم فيها التركية والفارسية والفرنسية وعلوم التاريخ والجغرافيا ونال الشهادات العالية وشغل المناصب الرفيعة في الدولة العثمانية ومنها منصب الدفتردار، وحينما عاد إلى المدينة المنورة تولى التدريس والإمامة والخطابة بالمسجد النبوي، ثم عُين محتسباً للمدينة ورئيساً لأدلاء المسجد النبوي، فقاضياً، وذاع صيته لدرجة أن السلطان العثماني عبدالحميد منحه لقب «كبير الخطاء» زمن افتتاح خط سكة حديد الحجاز)، وأن الأسرة من أصل بلقاني (ألباني) هاجرت إلى مدينة حماة السورية، ومنها إلى المدينة المنورة في عام 1100 للهجرة. أما شقيق المترجم له «هاشم محمد سعيد الدفتردار» فقد قال في كتابه «ذكريات طيبة» إن أسرة الدفتردار يعود نسبها إلى الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه، الذي انتشرت ذريته كبقية الصحابة في الأرض من أجل الدعوة إلى الإسلام.
وبعيداً عن النسب والأصل، فإن لقب «الدفتردار» من الفارسية بتركيب تركي، وهو مكون من كلمتين «دفتر» بمعنى سجل و«دار» بمعنى الماسك أو القابض، فيصبح المعنى «ماسك السجلات»، وهي وظيفة كانت من أعلى وظائف الدولة العثمانية، وتقابلها اليوم وظيفة وزير المالية أو وظيفة رئيس الديوان.
التحق الدفتردار في سن الثامنة بكتاب «السنبلية» الشهير بالمدينة المنورة، فحفظ وأتم القرآن الكريم وجوّده. وصلى به التراويح في المسجد النبوي وهو في العاشرة من عمره (كان من عادة الأسر الحجازية، بعد ختم وحفظ أبنائها لكتاب الله، أن يدفعوا بهم لقيادة صلاة التراويح وسط الاحتفاء والفرح بهم).
عندما نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914، وحاصر القائد العسكري التركي فخري باشا المدينة المنورة، قام الأخير بما يعرف بجريمة «سفر برلك»، وهي عملية تهجير قسري لأهل المدينة المنورة إلى الشام والأناضول، فكانت أسرة المترجم له ضمن من تمّ تهجيرهم إلى تركيا.
عاش الدفتردار مع جده يحيى فترة من الزمن في مدينة قونيه التركية، قبل أن ينزح مع والدته وإخوانه إلى دمشق التي التحق فيها بمدرسة الصنائع العثمانية. وبعد وفاة والدته انتقل مع شقيقيه هاشم وعلي من دمشق للاستقرار في بيروت، حيث عمل فيها مع شقيقيه في مهنة الندافة نهاراً، وفي مهنة حراسة البضائع التجارية بميناء بيروت ليلاً. وكان أخوه «هاشم محمد سعيد الدفتردار» قد سافر وقتها إلى مصر للدراسة بالأزهر الشريف بمساعدة من مفتي لبنان، فأتم دراسته هناك وتخرج وعاد إلى لبنان وعمل مدرساً بمدارس بيروت وبكلية فاروق الأول الشرعية في بيروت، وواعظاً بجوامعها. ولعل هذا كان دافعاً لمحمد الدفتردار للاقتداء بأخيه، فسافر هو الآخر إلى القاهرة في حدود عام 1929 والتحق بالأزهر الشريف بعد أن تم اختباره بنجاح في «ألفية ابن مالك» وكتاب المعلقات. ومكث فيها قرابة العشر سنوات وهو يتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي والعالي (في كلية اللغة العربية) إلى أن تخرج حاملاً شهادة الأزهر العالمية مع إجازة التدريس العام في عام 1943. ويذكر لنا الأستاذ محمد بن عبدالرزاق القشعمي في مقاله عن الدفتردار بصحيفة «الجزيرة» السعودية (11/11/2017) أن صاحبنا كان يُصرف له إبان دراسته في الأزهر نصف جنيه شهرياً. ومن أجل تحسين وضعه المعيشي، راح يعمل بإحدى المطابع في مهنة «مصحح لغوي» مقابل قرش واحد لتصحيح الصفحة الواحدة، فكان يسهر لتدقيق وتصحيح 50 صفحة كي يحصل على نصف جنيه يومياً (ذكر القشعمي خطأ كلمة مليم بدلاً من قرش).
بعد غياب قسري عن المدينة المنورة امتد إلى أكثر من ربع قرن، وبعد أن تغيرت أحوال العالم السياسية ونشأت أوضاع جديدة في مسقط رأسه عاد الدفتردار إلى المدينة، فعمل في التدريس، بل قاده حماسه لنشر العلم والمعرفة إلى تأسيس ما يقارب الثلاثين مدرسة في المدينة المنورة وضواحيها، كانت من بينها لأول مرة مدرسة ثانوية سميت بـ«مدرسة طيبة».
استرعت جهوده وحماسه وإخلاصه وهمته أنظار المسؤولين، فصدر الأمر من مديرية المعارف السعودية بتعيينه معتمداً (مديراً) للمعارف بالمدينة المنورة، كما أُسندت إليه مسؤولية إدارة أول مدرسة ثانوية فيها إضافة لعمله. وبصفته الوظيفية كان يشرف على كل المدارس الحكومية والأهلية في المدينة وملحقاتها ومن بينها «دار العلوم الشرعية» و«دار الأيتام» و«مدارس تحفيظ القرآن»، فكان هذا دافعاً له لمضاعفة جهوده وتحقيق المزيد من الإنجازات التي تجلت في قيامه بتأسيس «المعهد العلمي السعودي» بالمدينة مع قسمها الداخلي لاحتضان طلبة المناطق المجاورة.
ولأن الرجل أدار ووجّه كل تلك المدارس والمعاهد والأقسام بجدارة واقتدار وتفانٍ، وارتقى بأحوالها وسهر على تنظيمها على أكمل وجه، استحق لقب «رائد الحركة التعلمية الحديثة بالمدينة»، الذي التصق باسمه. وفي سياق بيان أسلوبه التربوي والتعليمي المميز قال عنه أحد تلامذته وهو الأديب محمد حميدة: «كان يشجعنا بمنح المكافآت للحفظة الأوائل، والإعلان عن أسمائهم في لوحة الشرف، وكان لا يتقيد بالموضوعات المحددة بالمنهج بل كان يختار لنا الموضوعات الحية التي تحرك أفكارنا وتثير أحاسيسنا الوطنية والعربية، فلم تكن حصة الإنشاء وسيلة لتنمية قدرتنا الكتابية وملكة التعبير، بل كانت أيضاً وسيلة لتربية عواطفنا الوطنية وتغذيتها».
أما عن شخصيته وخصاله وشمائله فقد قال الدكتور محمد العيد الخطراوي، وهو صاحب كتاب «محمد سعيد دفتردار.. أديباً ومؤرخاً»، إنه: «شخصية زكت عرقاً، وطابت عِلْقاً، وزهت عِذْقاً، وأغدقت بالعطاء والنماء غَدْقاً، وأثمرت خيراً وصدقاً. كان - رحمه الله - رجلاً حلو المعشر، طيب القلب، صادق المظهر والمخبر، سليم الطوية، نقي السريرة، يحب في الله ويبغض في الله، ويقدر أهل العلم والخير، لا يفرق في ذلك بين قريب وبعيد، ولا بين غني وفقير، أو كبير وصغير، فالرباط الذي يربطك به إنما هو مقدار ما لديك من علم ومعرفة.. أقول هذا وقد زاملته وأنا في ذروة شبابي مدرساً بمدرسة طيبة الثانوية بالمدينة المنورة، وكنا أهل تخصص واحد فما كنت أحس معه بفارق السن، ولا بتطاول في علمه، أو كبرياء في القول أو العمل، بل كان يمسك بزمام المبادرة في كل مناسبة علمية أو أخوية».
من ناحية أخرى، يعتبر الدفتردار واحداً من رواد الحركة الأدبية والشعرية والنثرية والقصصية في المدينة المنورة. ساعده على ذلك تخصصه في اللغة العربية بالأزهر، وتأثر ثقافته بثقافة البيئات المتنوعة التي عاش فيها كبيئات سوريا ولبنان ومصر، ثم ذوبانه في مجتمع الحجاز، حيث العراقة والأصالة والحضارات الملونة المتعايشة التي ولدت من رحمها التيارات الأدبية المتنوعة. وهكذا نجده، وسط أعبائه الوظيفية كسادن للتعليم والعلم والمعرفة، يهتم بتأريخ الأدب العربي، ويعيد كتابته بلغة العصر، ويؤسس لنفسه منهجاً خاصاً يجمع ما بين مدرسة الحجاز التقليدية في الأدب والشعر ومدرسة التجديد والعصرنة، ومن ثمّ يشارك مجايليه من الرواد في المدينة المنورة سنة 1952 في تأسيس «أسرة الوادي المبارك» كتكتل ثقافي أهلي يعنى بالهم والتعاون الثقافي والأدبي والمعرفي، علما بأن «أسرة الوادي المبارك» تحولت لاحقاً إلى «نادي المدينة الأدبي» الحالي (كتب الأديب المدني محمد صالح عسيلان في كتابه «شخصيات مميزة» قائلاً: «أما الوجه الأدبي للعالم محمد سعيد دفتردار، فأنه أول من نادى بتأسيس النادي الأدبي بالمدينة المنورة.. وكان قد جعل من بيته موقعاً لهذه المنشأة حديثة التكوين، واستضاف أعضاء النادي لمدة استمرت أكثر من عامين قدم فيها وقته وماله وجهده لهذا العمل العظيم»)..
من المجالات الأخرى التي خاضها الدفتردار وبرز فيها، عدا الحركة التعليمية والأدبية، كتابة التراجم والسير بأسلوب أدبي متميز وبواقعية شديدة ودون المبالغة في الإطراء والمديح ومن غير التعقيد أو الزخرفة أو الالتواء. وبعبارة أخرى تميزت أعمال التوثيق التي أنجزها والتي شملت الكثيرين من المشاهير والمغمورين من أبناء المدينة المنورة بالمصداقية والدقة والواقعية وإعطاء كل ذي حق حقه. وفي هذا السياق استوقفني قول أحدهم إن الدفتردار في توثيقه للسير استحضر الكثير من التراجم ولم يختص بوقت معين، فكانت تراجمه لعلماء وأدباء وأعيان وبسطاء من المدينة المنورة عاشوا ما بين القرنين العاشر والرابع عشر الهجريين، وحرص فيها ألا يذكر سوى محاسن أصحابها دون أخطائهم وهفواتهم. كما استوقفني ما جاء في سيرة الأديب المكي عمر عبدالجبار الذي عني بكتابة سير رجالات مكة المكرمة من أن مدرسة الدفتردار المدنية في كتابة السير تفوقت على مدرسة عبدالجبار المكية لجهة ثراء اللغة والأسلوب المشوق والتحفيز على القراءة والابتعاد عن السرد التقليدي.
بدأ صاحبنا في نشر قصائده ونتاجه الأدبي بالصحف والمجلات المصرية مثل «الأهرام» و«السياسة» و«الرسالة» تحت اسم مستعار هو «أبو يعرب المدني». وبعد عودته إلى مسقط رأسه راح ينشر باسمه الصريح بعض ترجماته للشخصيات في صحيفة «المدينة» وفي مجلة «المنهل»، وبلغ عددها أكثر من 50 ترجمة من تلك التي اعتمد عليها الآخرون كثيراً في توثيقهم للأحداث والتطورات التي شهدتها المدينة المنورة، خصوصاً أنه كان دقيقاً وشاملاً في عمله.
عدا عن تلك المقالات صدرت للدفتردار المؤلفات التالية: كتاب تاريخ الأدب العربي» (6 أجزاء)، رواية «قصة الأفندي»، رواية «قصة المجيدي الضائع»، رواية «الحاجة فلحة»، كتاب «محاضرات دينية» (10 أجزاء)، كتاب «مذكرات من تاريخ العرب قبل الإسلام»، كتاب «نصوص مختارة» (3 أجزاء)، كتاب «ذخائرالمدينة»، وكتاب «أعلام المدينة المنورة» الذي قام بجمعه وتحقيقه وتقديمه الباحث الأديب الدكتور محمد إبراهيم الدبيسي، وأصدره نادي المدينة المنورة الأدبي.
وهكذا، عاش الدفتردار حياة كريمة مشبعة بحب الأدب والعلم والمعرفة ومكرسة لخدمة الحركة التعليمية والأدبية، لكن دون ادعاء أو بهرجة. فقد ظل مقيماً بمنزله البسيط بمحلة باب المجيدي، يقضي وقته في كتابة التاريخ والتأليف وممارسة العبادة وأداء الصلوات، بعد أن تقاعد من العمل التربوي سنة 1965، وظل كذلك إلى أن حانت منيته في 13 مايو 1972، فصُلي عليه ودفن في بقيع الغرقد في موكب حافل بمشاركة العلماء والوجهاء والأعيان والأدباء.
حياة مشبعة بحب الأدب
أخبار ذات صلة
0 تعليق