عندما تسألها عن قانون الجاذبية، أو نظرية النسبية، أو الجينوم البشري، أو صناعة صاروخ فضائي، فهي مجبولة على أن تأتيك بالإجابات الأكيدة من المراجع العلمية المثبتة، والدراسات الموثقة المتفق عليها، لا تزيد عليها حرفا، ولا تلوي عنق اللغة، ولا تقلب المعاني، ولا تنجرف بالمشاعر.
هي هنا عقلانية منطقية شفافة تحارب لإبقاء أسس المعرفة العلمية نقية واضحة لا لبس فيها.
أما فيما يتعلق بالمشاعر والأفكار والمعتقدات، فهي بذكائها لبقة مجاملة، تستطيع معرفة خلفية من يسأل، بالتطفل على جميع معلوماته المتوفرة في هاتفه، وبلوغ أدق تفاصيل حياته واهتماماته وديانته، وعندما تجيب عن الأسئلة الغيبية، تحاول إرضاء الزبون، فلو كان من يسألها هندوسيا، سيجد عندها تقديس لديانته الهندوسية، وتعزيز مصداقيتها وتاريخها ومواقفها، وتشاركه معلومات تجلبها من مراجع ومقولات رموز ديانته، فتهبه الإجابات، المطمئنة للهندوسي، بأن ديانته الأفضل على مستوى العالم، وأنها الإيمان القويم والحق الأبلج!
ومثل ذلك يحدث لو كان من يسألها مسلما، مسيحيا، يهوديا، بوذيا، أو لا ديني، وحسب ما تستشفه من طريقة طرحه للأسئلة.
وفي أستراليا قامت المؤثرة "ليلى جاي" بإلقاء أسئلة عن الديانات والإلحاد على الشات جي بي تي، فكانت الإجابات بما استطاع الذكاء الاصطناعي استشفافه منها، بتحديد أن الإسلام هو الدين الوحيد الحق، وشطب الأديان الأخرى، وأشاد بالقرآن، ورموز الشريعة الإسلامية، ما جعل مقطعها ينتشر بقوة في مواقع التواصل، ويهبها الشهرة الانشطارية.
واقعا فقد كانت أسئلتها منحازة وهي تستدرج الذكاء الاصطناعي، وتتدرج في خدمة فكرتها المدهشة، وبوجه ظل يعلوه العجب، لتزيد مصداقيتها عند المتابعين.
ابتهجت الملايين بهذا المقطع، وغضبت الملايين، وتنازع أصحاب الأديان الأخرى حول الحدث، وصنعوا منه مادة خصبة لحوارات ومناظرات وخناقات، ثم ذهب بعدها كل صاحب ديانة يسأل الشات جي بي تي، وللعجب فقد كان كل منهم يحصل على إجابات تشيد بديانته الخاصة!
الذكاء الاصطناعي ليس كائنا حيا، وليس له فكر ذاتي، ولا معتقد، فتكون أجوبته بناء على ما يستشفه من أسئلة السائل، وهنا تبرز أول معضلات هذه التقنية، التي وجدت نفسها حائرة بين تخالف ميول أهل الديانات المختلفة، وكل يستحثها لإعطائه شهادة ذكاء تقني عصري تدعم مصداقية معتقده!
المحادثة مع الشات يكون المقابل فيها موسوعة علمية ثقافية فلسفية تغذى من مختلف المصادر، ما يؤكد استحالة تبنيها لوجهة نظر واحدة عن المعتقد، فتعتمد على نوعية الأسئلة، وصاحبها، ومخزونه الفكري على الحاسوب والهاتف، ومناطق بحثه، وما دسه من صور ميول في أسئلته، وبما يؤمن به ويتابعه من برامج وحوارات ومناظرات ثقافية ودينية، ومن كل ذلك تنتخب الإجابة، التي لا تمثلها بقدر ما تمثل شخص من يسأل.
خلل في الذكاء الاصطناعي، ربما يعطي الفرصة لمن صنعه بالتعديل، والتطوير، وبصرف النظر عمن يسأل.
ويعد هذا من أكبر التحديات الحالية لمصداقية الذكاء الاصطناعي، ودعونا نراقب ونتعلم، كيف سيكون مستقبل عقولنا وضمائرنا مع تكامل دقة عجلتها ويقينها.
0 تعليق