كان المطور منزعجا ويكاد يضيق ذرعا من هذه النصائح مرددا عبارة "عفوا لا أستطيع" فتطبيق أنماط مختلفة يتطلب إجراءات معقدة وطويلة، فلماذا يتوجب علي خوض ذلك؟ وأضاف وهو منهمك في تقطيع اللحم وتتقاطر من يده الزيوت والشحوم "المهم أن تسكن في حي سكني تتوفر به خدمات ومرافق عامة".. ثم بدأ يسترسل في الحديث بحماس وحبات الأرز تتطاير من فمه "المجتمع اعتاد على بلوكات سكنية تحيط بها شوارع تخترق الحي من جميع الجهات، فلماذا نجرب أنماطا جديدة؟" و"إذا كان السوق يتجه في الأصل إلى تبني النمط الشبكي، وهو نمط رائج، فلماذا تعقدون الأمور؟" ليتجشأ بصوت مرتفع - دون اعتذار - ويختم حديثة بصيغة تعلوها نبرة الانتصار قائلا: هذه الصورة الذهنية للحي السكني لدى غالبية المجتمع فلماذا تحاولون تغييرها؟
للأسف لقد أكد "اجتماع الكبسة" على أن تخطيط الحي السكني - عند البعض - لا يعدو كونه مجرد جرة قلم ومسطرة نرسم خلالها شوارع متعامدة وبلوكات وأرصفة وقطعا سكنية تحيط بها مسارات على جانبيها محلات تجارية بغض النظر عن طبيعة الموقع والخصائص الديموغرافية والأهداف الاستراتيجية للمدينة. مفهوم الحي السكني لدى البعض بمثابة الفراغ الواسع الذي يحتوي على المساكن، والمدارس والمساجد تتصل ببعضها البعض من خلال شبكة شوارع. يمكن أن يتطور هذا المفهوم قليلا إذا أضفنا مسارات للمشاة ونوافير ومسطحات خضراء. تأخذنا هذه الأفكار السطحية إلى تخطيط عمراني أشبه بالرسومات الفنية المجردة من سياقها الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. هي أشبه بأوراق مطبوعة بها خطوط مستقيمة ومتعامدة وأراض مرقمة يستطيع عملها أي شخص فني يعمل في مطبعة أوتوماتيكية أو لديه على الأقل جهاز كمبيوتر مرتبط بطابعة مقاس A0. وفق هذا المنظور، الأحياء السكنية مجرد بيئات لاستيطان المجتمع ويفرغ العمران من مضمونه الرامي للارتقاء بالمجتمعات وتطوير أساليب المعيشة.
بالمناسبة، الحوار كان منطقيا إذا أردنا ذلك، وغير منطقي إذا أردنا ألا نفهمه، ولأول مرة أتفق مع تفكير هذا المطور العقاري، فالمجتمع أساس وتقبل المجتمع لأنماط تخطيط جديدة ومبتكرة أمر حتمي لنجاحها واستدامتها.. كيف نقنع مجتمعا اعتاد لعقود طويلة على نمط تخطيط واحد للأحياء السكنية على حد قوله؟ وأنا أقول إنها تحدٍ عارم؛ بل هي أشبه بمحاولة عبثية، فلا أحد مستعد للتخلي عن أكل الكبسة واستبدالها بالكافيار!
0 تعليق