د. خالد أحمد عبد الجبار
منذ ما يقرب من مائة وخمسين عامًا، كان أسلافنا يعيشون في «فيحاء»، أرض الينابيع السبعة، في رغد من العيش. في تلك الفترة، كانت قبيلة «الزُعر» تقطن في منطقة الينبوع الضحل، في أوضاع شديدة من شح وجفاف. كانت طرق القوافل التي تسلك إليهم وعرة، تصل إلى قرابة العشرين مرحلة في أقصرها، وأحياناً تكون خطرة بسبب قطاع الطرق. نتيجة لتلك الأحوال، رحلوا واستقروا على تخومنا، فدعاهم أجدادنا للعيش معنا في أمان.
كان يُتراءى لأجدادنا أن السماح لهم بمشاركة عالمنا سيجلب لنا الامتنان، وبالفعل شهدتُ مع أبناء جيلي نموذجًا معبرًا للحقبة الأخيرة من ذلك الوئام، فقد كان تقبل الآخر معتقدًا في ضمائرنا.
لقد وعينا لاحقًا مقدار الهشاشة التي اكتنفت اندماجنا، فما أن تكاثرت أعدادهم، واكتسبوا قوةً بمؤازرة بني جلدتهم من خارج فيحاء، حتى تمكنوا من إحكام السيطرة على مفاصل الحياة، وحكموا بتلك الأغلبية. وانطلقت من بعدها شرارة التصادم الأولى بحديثهم من منطلق الفوقية، فانجذبوا له، وامتلأت أحاديثهم بالتبخيس لكل ما يخصنا، إلى حدٍ قد يجلب -على الواحد منا- ذكر اسمه المضايقات، ثم يجد نفسه، وقد غدا في أتون الخصومات.
وخلال العقد الماضي، تعددت مداخل الشقاق، ومع تضاؤل أعدادنا، أصدر زعيمهم كوهين أمرًا بحصر إقامتنا في طرف البلدة، على أرض صخرية لا ماء فيها ولا زرع، تحيط بنا الأسوار من كل مكان، ثم أصبح تطويقنا أشد، فلم يعد البريد يصل، أو تتسرب إلينا المؤن. ومعها اتبع زعيمنا نظام إعاشة شديد الصرامة لتكفي المؤن أطول وقت ممكن، حيث كان شبح المجاعة ماثلاً أمامنا. ومع الأيام، تعذر الحفاظ على حياة المسنين، والأطفال والرضع، ومن على شاكلتهم من الضعف. هام الناس في الشوارع بحثًا عن أي شيء يمكن أكله، حتى الحيوانات لم تسلم من الأمعاء الجائعة، بل طالت أوراق الأشجار!.
عاشوا في فيحاء بخيرات لا يقاسمهم فيها أحد، ورعت مواشيهم وسمنت، وصادروا أرزاقنا وبيوتنا. لكن، لم تمضِ مدة حتى طالتهم قسوة المعيشة كما عصفت بنا. بدأت الينابيع بالنضوب، لتضيق بهم الدنيا كما ضاقت بنا.
كل ما مضى حكاية اجتررتها أنا «ياسين»، في هذه الساعة من هذه الليلة القمراء، وأنا أشرف على فيحاء، جالساً على تلة، متأملاً. أتذكر كيف كنا، وكيف صرنا، ولا أكاد أصدق أني يقظان، فأفرك عيني أحسب أني نائم، وما أراه رؤيا منام.
لكن، قطعت ذكرياتي مجموعة من الصبية، زهاء العشرين، يسوقون قطيعاً من الأغنام، تسللوا إلى داخل فيحاء عبر نفق صغير، وتجاوزوا السور بعدما أزاحوا غطاءً مموهًا.على ظهورهم قرب الماء، متجهين نحو العين الكبرى، ولعل غايتهم تبدو غريبة؛ فالجميع يعرف أنها نضبت، لذا لم تعد يراقبها الجنود، وأُهملت.
وما حدث لا يُصدق. أولئك الأطفال لم يبذلوا جهدًا لجلب الماء، فما أن وصلوا حتى تدفقت المياه، وارتوت أغنامهم وملأوا قرابهم بهدوء، ثم انسحبوا، عدا طفل واحد، بيده عصا، وبانسحابهم توقفت العين، وجفف ذلك الطفل الماء المتبقي، وانضم إليهم.
راقبتُهم أثناء عودتهم، وعرفت الفتى حامل العصا، «يحيى»، وتبين بأنه من يفرض الانضباط، ويُرجع ما تشرد من الأغنام. كان لديه هيبة تحمل بين طياتها حماس الطفولة وجرأة الكبار.
قررت الانتظار حتى الصباح. مع انقشاع الفجر، سرت إلى بيته وانتظرته إلى حين ذهابه للمدرسة.
«يحيى!» ناديت.
التفت نحوي، ثم أدار أذناً صماء وحث الخطى.
«انتظر، أريدك لدقائق معدودة!» قلت منادياً.
«توقف واستدار نحوي، سائلاً: ماذا تريد؟
لن أطيل عليك، أريد فقط أن توضح لي ما رأيته ليلاً.
نظر إلي ملياً، بنظرات مختلطة بين الريبة والدهشة.
لا تنزعج. أريد فهم ما جرى.
قال: «تعال بنا إلى مكان يمكننا الحديث فيه بانفراد». كانت نبرته رجولية تتجاوز سنه العاشرة.
توجهنا إلى حيث كنت بالأمس، وجلسنا على ذات الربوة.
ما الغرض من سؤالك؟ سأل بحذر، ثم أردف:
«أخشى أن نخسر سرية الموضوع، وهو أمر تُعقد عليه حياتنا».
أعدك أن يبقى سرك مدفوناً.
حسناً، بعد جفاف العين الكبرى وازدياد ضائقة المياه، اختفت أغنامنا ذات مساء. خرجنا نحن الصبية للبحث عنها. بحثنا كثيراً حتى ظننا أنها سُرقت.
ثم صاح أحدنا: «لقد وجدتها!» وطلب إلينا أن نتبعه في صمت.
لقد استطاعت بغريزة الحياة أن تجد طريقها إلى المياه عبر نفق صغير. لا نعلم كيف ومتى حُفر، لكنها سلكته، فشربت بهدوء من الماء المتدفق في مكان تجمعها. وبعدما ارتوت، عادت أدراجها، ومعها بدأ الماء بالنضوب رويدًا رويدًا إلى أن اختفى تمامًا. ونحن بدورنا قمنا بتمويه النفق في تلك الليلة، ومن حينها، أصبحنا نأتي بالأغنام نرويها، ونعبئ القراب بالماء، ثم نرجع.
ثم ابتسم ونظر إلي، وقال: «لقد تشكلت لدينا قناعة بأن كل من في داخل الأسوار قد وجد طريقه للماء عبر سر خاص به».
ثم استويا في جلستيهما وهما ينظران نحو الأفق.
في الأثناء، كان هناك اجتماع آخر في أروقة قصر كوهين، حيث نما إلى مسامعه بأن هناك من يعبر الأسوار طلباً للماء، فأصدر قراراً بتشديد الرقابة على العيون المحاذية للأسوار، والتعامل مع التجاوزات بلا رحمة. لقد طوق أعناقهم بنير أكثر وطأة.
بعد منتصف الليل، وبالقرب من العين الكبرى، شوهد الأطفال يقودون أغناماً عبر نفق إلى داخل فيحاء. كان الجميع يعلم أن تلك العين جافة جفاف الصخر، وقد خلص الحراس إلى انتظار ما سيجنيه الأطفال.
بُعيد لحظات من وصولهم، بدأت الأرض تنزُ ماءً بقدر ما تطأها من أقدام، فرأت أعينهم ما لا يمكن تصديقه، فقال أحدهم: «إنه سحر».
وعندما قرروا إطلاق النار، كانت الأغنام قد عبرت النفق، يتقدمهم الأطفال، بينما يحيى متأخراً خلف الأسوار. فصوبوا بنادقهم ونادوا على الأطفال ليتوقفوا بعدما أضيئت الأنوار، فيبسوا في أماكنهم.
صرخ يحيى ملوحًا بعصاه: «أرجوكم، لا تطلقوا النار!» عندها، تلقى عدة طلقات وسقط مضرجًا بالدماء بعدما غرس عصاه في الأرض أمامه.
كان الفجر على وشك البزوغ، واستيقظت فيحاء في ناحيتيها على صوت الأعيرة النارية وصراخ الأطفال المختلط بضحكات الدرك. احتشد الأهالي للاطمئنان على الأطفال، لكن أُطلقت النيران لتفريقهم.
مضت ساعات النهار الأولى، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب من يحيى، بينما اكتظت شوارع الفيحاء بالمشاهدين، وكان الشامتون يتطاولون بحديثهم، في حين صمت الأغلب.
فجأةً، ظهرت غمامة سوداء ضخمة، أطفأت شمس الظهيرة المتألقة. ثم أبرقت ودوى صوت صاعقة، وأعقبها رعد مخيف، لتبدأ شآبيب المطر بالهطول. انطلق الجميع يبحثون عن ملاذ، والهطل غزير دون انقطاع، والكل يُرغم الكل على الركض فوق قارعة الطريق الموحلة.
ومع ذلك التدافع، هوى بعض الشيوخ والنساء، وبدأت تتعالى صرخاتهم من الألم وهم يداسون بأقدام الباحثين عن ملجأ.
كانت عينا يحيى تتأملان كل ما يدور، كان يصيح تقريبًا، وجسده يرتجف، وشفتاه تتمتمان غضبًا، كأنهما نار تتأجج قبل أن تنطفئ
لكنه لاحظ شيئًا غريبًا، وأذهله ما رآه: كانت عصاه تكبر حجمًا وتزداد علواً، كأنها تستقي قوتها من عميق الألم المحيط به. ثم رأى تدفق السيول من المرتفعات من عدة جهات، وكلما انحدرت، ازدادت عُرْماً، ثم ما لبثت أن أحدثت طوفاناً عظيماً قطع شمال فيحاء إلى جنوبها بلا هوادة، مبتلعاً كل ما يعترض سبيله، لينفلق عند العصا المغروسة إلى نصفين، كأنما ارتطم بجبل راسخ، وانحرفا كلٌ في مسار مغاير.
عدة ساعات، كانت كفيلة بتحطيم الأسوار المنيعة، شاهد معها يحيى الطوفان يسري كدم متدفق يهب الحياة لعصاه، التي وقفت حاجزًا يمنع البلاء عن عشيرته. وقبل أن تفيض روحه إلى بارئها، نظر بزوايا عينيه يمنة ويسرة، فرأى كل جزء من الطوفان وكأنه مسيرٌ ليهدم أسواراً أخرى أقامها الطغاة في أرض الله.
0 تعليق