غياب الجدية ينسف الثقة بوعود الحكومة الاقتصادية

الكويت 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

غالبا ما تحيط شكوك الرأي العام في الكويت بوعود الإدارة العامة بشأن عدد من السياسات المالية والاقتصادية في البلاد، لا سيما التي تتضمن أرقاما كالموازنة العامة للدولة وحساباتها الختامية، أو مشاريع كأعمال البنية التحتية، أو قوانين مثل الدين العام أو التمويل العقاري، فضلا عن مشاريع أخرى أكثر تعقيدا، كالضرائب أو الخصخصة.

ومع تأكيد صعوبة قياس اتجاهات الرأي العام لعدم وجود مؤسسات مهنية محايدة أو مستقلة في الكويت تتولى هذه المهمة، إلا أنه يمكن رصد حالة ضعف أو محدودية الثقة المجتمعية بالسياسات الاقتصادية الحكومية، من خلال ما يُكتب في الصحافة التقليدية ووسائل التواصل وحتى الدواوين والملتقيات العامة، فضلا عن تقارير الجهات الاقتصادية داخل البلاد أو خارجها، فإن مسألة التسليم بما تطرحه الحكومة ووزاراتها وأجهزتها من أرقام ومشاريع وتوجهات، حتى وإن كان سليما في مبدئه، سيجد تشكيكا واعتراضا، بل وتفنيداً في تفاصيله.

معظم مشاريع البنى التحتية الحالية متأخرة منذ نحو 20 عاماً ولم تعالج أسباب تأخرها... وبعضها فقدت جاذبيتها أو قيمتها

ثقة المجتمع

ثمّة عدد من الشواهد خلال الأسابيع الأخيرة يبيّن ليس فقط محدودية ثقة المجتمع ببيانات الحكومة المالية والاقتصادية، بل أيضا يكشف عن أسبابها التي ترتبط غالبا بغياب جدية الحكومة ذاتها في التعامل مع ملفاتها، أو حتى القيام بجهد لشرح تفاصيلها، فلا شك في أن اعتماد مجلس الوزراء لمشروع ميزانية السنة المالية 2025 - 2026 بنفس قيمة مصروفات السنة السابقة، رغم إجراءات الترشيد الخاصة بإلغاء تأمين عافية الصحي، الى جانب وقف العمل بالتأمين الصحي لعدد من الهيئات الحكومية العامة، فضلا عن خفض وإلغاء مجموعة من «البدلات المالية» للعديد من العاملين في القطاع العام، سوف يفضي الى تعاظم حالة الشك بين المواطنين تجاه سياسات الترشيد ووقف الهدر بالميزانية العامة للدولة.

ولعل مفهوم الهدر في نظرة الإدارة الحكومية يُعاب عليه أنه محدود وضيق، فالهدر ليس فقط ماليا بالضرورة، بل أيضا في تضييع فرص اقتصادية مواتية، وأهمها عدم استغلال أملاك الدولة أو ضعف العائد من المشاريع التي تنفذها الدولة، بحيث تصبح الأراضي والمشاريع قاعدة لبيئة الأعمال من الأنشطة الصغيرة الى المشاريع الكبرى، بما يضمن توفير عشرات الآلاف من الوظائف سنويا للشباب الكويتيين، بما يسهم في معالجة البند الذي يستنزف 61 بالمئة من ميزانية الدولة، أي «الرواتب والأجور».

بل إن فكرة إنفاق 24.5 مليار دينار كقيمة لمصروفات الميزانية في سنة واحدة، دون أن يواكبها برنامج عمل حكومي، ستعطي مؤشرات لمخاوف بأن الكويت تنفق نحو 100 مليار دينار خلال 4 سنوات قادمة، بلا خطة حكومية واضحة، وهو مؤشر سلبي يكشف عن جانب آخر من ضَعف الجدية وما يرتبط بها من محدودية الكفاءة وغياب الرؤية، مما يعزز من الشكوك ببيانات الحكومة المالية والاقتصادية، وهو ما ينسحب على مشروع قانون وصل - حسب مؤتمر وزيرة المالية - الى مراحله الأخيرة، أي الدَّين العام الذي من المقرر أن يوازي 60 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، أي 30 مليار دينار، مع تعهدات غير ملزمة بتوجيه أموال الدين العام على مشاريع البنية التحتية.

«الدَّين العام» لا يحتاج إلى تصريحات إعلامية بل خطة واضحة تتضمن خفض الهدر المالي وتحديد أوجه الصرف وكيفية السداد مع بيان المخاطر

قرض وحصافة

ولعل تعهّد وزيرة المالية بتوجيه أموال الدين العام الى مشاريع البنية التحتية يعيد من ناحية الى الأذهان تعهدات حكومية مماثلة عام 2017، عندما اتجهت الكويت لآخر مرة الى الأسواق الدولية لاقتراض 8 مليارات دولار، وتعهدت بأن تكون «مقترضا حصيفا»، إلا أن أموال القرض صُرفت الى جانب سيولة الاحتياطي العام لسداد عجوزات الميزانية لا مشاريع البنية التحتية.

ومن ناحية أخرى، يفتح ملف جودة الإنفاق الرأسمالي على المشاريع في الكويت ومدى توفير هذه المشاريع - ومعظمها بنظام المناقصات، لا الشراكة أو الاستثمار الأجنبي - عوائد مالية غير نفطية للخزينة العامة، أو فرص عمل للعمالة الوطنية، أو تعديل التركيبة السكانية، أو تنمية الناتج المحلي الإجمالي من عدمه، أي أن يكون إنجاز أعمال البنية التحتية مرتبطا بما يحققه من منافع اقتصادية، وليس إتماما لأعمال الإنشاءات والمقاولات، مع الأخذ بعين الاعتبار أن معظم المشروعات المطروحة حاليا كميناء مبارك أو المطار أو المدن الاقتصادية والجزر هي مشاريع متأخرة منذ نحو 20 عاما، كلها لم تعالج أسباب تأخرها، وبعضها فقدت جاذبيتها أو قيمتها.

وربما يكون من المفيد الإشارة الى أن الخطة المطلوبة كي يكون الدين العام مقبولا بحده الأدنى هي أعمق من مجرد تصريحات إعلامية غير ملزمة، إذ تبدو الحاجة واضحة إلى خطة تتضمن إجراءات فعلية تجعل ترشيد المصروفات مؤثرا في خفض الهدر المالي، مع بيان المشاريع التي تستهدفها أموال الاقتراض، وهل سيكون سداد القرض من إيرادات هذه المشاريع، أم من عوائد النفط، مع تأكيد ضرورة بيان مخاطر أي تراجع محتمل لأسعار النفط على وضع الكويت الائتماني وملاءتها المالية.

ولا شك في أن وجود نتائج تعاكس مستهدفات الإدارة العامة هو ما يقوّض ثقة المجتمع بخطاب الحكومة الاقتصادي، فيكفي أن نعرف أن خطة التنمية أنفقت 9.7 بالمئة من ميزانياتها، ونفذت 1.5 بالمئة من مشاريعها، في حين أن الإنفاق العام في الميزانية يمثل 50 بالمئة من الناتج المحلي، أي أعلى من المتوسط العالمي البالغ 37 بالمئة، لكن بكفاءة تبلغ 0.54 نقطة، مقارنة بمتوسط عالمي عند 0.74 نقطة.

إقرار الميزانية دون برنامج عمل يعني أن الكويت ستنفق نحو 100 مليار دينار خلال 4 سنوات قادمة بلا خطة حكومية واضحة

نفط وحرب

ومع رصد تطورات الأحداث الاقتصادية العالمية التي تتصدرها السياسات «الترامبية» من حرب تجارية لم تستثنِ لا جيران الولايات المتحدة، المكسيك وكندا، ولا حليفها الاتحاد الأوروبي، ولا منافسها الصين، مما يرفع من حالات عدم اليقين في الاقتصاد العالمي بالتوازي مع جهوده لخفض أسعار النفط التي تتسق حتى مع تصريحات روسيا هذا الأسبوع بشأن عدم توجّه تحالف «أوبك +» لتأجيل زيادة إمدادات النفط الخام التي من من المقرر أن تبدأ في أبريل المقبل، مما يزيد من الضغط على أسعار النفط، وما ينعكس على إيرادات الخزينة العامة، ولا شك في أن عدم تفاعل الإدارة العامة مع التحولات العالمية بوضع خطط إصلاح اقتصادي ومالي سيزيد من شكوك المجتمع حول مشاريعها وتوجهاتها.

إن غياب الجدية في السياسات الاقتصادية الحكومية، رغم صلاحياتها الاستثنائية الواسعة وما يرافقها من ضعف في الكفاءة وانحراف بين الأهداف والنتائج، وعدم التفاعل مع تحولات العالم وتحدياته، كلها عوامل تجعل الثقة شبه معدومة بأي إجراء إصلاحي، حتى لو كانت مبرراته صحيحة أو ضرورية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق