سوريا، مئة عام من الأسئلة

مكة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
شهدت سوريا خلال المئة عام الماضية تاريخا مليئا بالاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تخلله سلسلة من الانقلابات العسكرية والحكومات الدكتاتورية التي أجهضت تطلعات الشعب إلى الحرية والعدالة والتنمية.

وبالرغم من الثروات الطبيعية الهائلة التي تمتلكها البلاد، إلا أنها عانت طيلة هذه الفترة من انتشار الفقر والبطالة، في ظل سياسات تفتقر إلى العدالة والحوكمة الرشيدة.

مع نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية، خضعت سوريا للانتداب الفرنسي بموجب اتفاقية سايكس-بيكو. ورغم هذا الاحتلال شهدت البلاد حراكا شعبيا واسعا للمطالبة بالحرية والاستقلال. كانت الثورة السورية الكبرى (1925-1927) مثالا حيا على نضال الشعب السوري ضد الاستعمار، حيث توحدت مختلف الأطياف الاجتماعية والسياسية في مواجهة الاحتلال.

في عام 1946 حصلت سوريا على استقلالها، لتبدأ مرحلة جديدة من بناء الدولة الحديثة. تم وضع اللبنات الأولى لنظام سياسي واقتصادي مستقل، رغم التحديات الكبيرة التي واجهتها الدولة الناشئة.

بعد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي عام 1946، دخلت سوريا في مرحلة من عدم الاستقرار السياسي. شهدت البلاد أول انقلاب عسكري عام 1949 بقيادة حسني الزعيم، فاتحا الباب أمام سلسلة انقلابات عسكرية متتالية. كانت هذه الفترة كابوسا سياسيا، حيث تغيّرت الحكومات بشكل مستمر بين أطراف عسكرية ومدنية تسعى للهيمنة على السلطة.

وفي عام 1963 وصل حزب البعث إلى الحكم عبر انقلاب عسكري، مما أرسى أسس النظام الدكتاتوري الذي استمر لعقود. توالت الديكتاتوريات منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، حيث أسس نظاما أمنيا صارما قائما على القبضة الحديدية، وتعميق السيطرة الحزبية على مؤسسات الدولة.

هيمن القمع السياسي وغياب الديمقراطية على المشهد السوري طوال هذه العقود. فقد أُغلقت مساحة التعبير، وحُظر تشكيل الأحزاب المعارضة، واستخدمت قوانين الطوارئ لقمع أي احتجاجات سياسية. تحولت الانتخابات إلى أداة شكلية لتثبيت السلطة الحاكمة، مما زاد من عزلة الدولة عن تطلعات الشعب.

رغم امتلاك سوريا موارد طبيعية هائلة من النفط، الغاز، الثروات الزراعية، والمياه، إلا أن الاقتصاد تدهور بشكل كبير نتيجة سياسات اقتصادية فاشلة وإدارة سيئة للموارد. خلال العقود الماضية، ركّزت الحكومات على الإنفاق العسكري وبناء مؤسسات أمنية على حساب التنمية الاقتصادية.

أدت هذه السياسات إلى تصاعد معدلات الفقر والبطالة. ووفقا للإحصائيات، باتت نسبة كبيرة من السكان تعيش تحت خط الفقر. كما ساهم الفساد المستشري في الحكومة والجيش في تآكل الاقتصاد الوطني وتحويل الموارد لصالح الطبقة الحاكمة والمقربين منها.

عانت سوريا من تصاعد حدة الظلم الاجتماعي، حيث تركزت السلطة والثروات في أيدي طبقة صغيرة، بينما تُركت غالبية الشعب لمواجهة ظروف معيشية قاسية. تفاقمت البطالة، خصوصا بين الشباب والخريجين الجامعيين، ما أدى إلى هجرة الكفاءات إلى الخارج.

كما تأثرت القطاعات الأساسية كالتعليم والصحة، حيث عانت المستشفيات والمدارس من نقص التمويل والتجهيزات، مما زاد من معاناة المواطن العادي. في الوقت نفسه استمر تجاهل احتياجات الأرياف والمناطق النائية، مما عمّق الفجوة بين المدن والقرى.

جاءت الانتفاضة الشعبية في عام 2011 كتعبير عن الغضب المكبوت نتيجة عقود من الظلم والتهميش. إلا أن المطالب بالحرية والعدالة تحولت إلى حرب أهلية طويلة الأمد أودت بحياة مئات الآلاف، وأدت إلى نزوح ملايين السوريين داخل البلاد وخارجها.

انهارت البنية التحتية بشكل شبه كامل، وتراجعت الخدمات الأساسية، وتحولت سوريا إلى ساحة صراع دولي وإقليمي. تفاقمت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، حيث ارتفعت معدلات الفقر إلى مستويات غير مسبوقة، وفُقد الأمل لدى شرائح واسعة من المجتمع.

تعكس مسيرة سوريا خلال المئة عام الماضية حالة مأساوية لدولة ذات إمكانات طبيعية وبشرية ضخمة، لكنها أُنهكت بسبب الحكم الدكتاتوري والصراعات المستمرة وسوء إدارة الموارد. يبقى أمل التعافي قائما، لكن ذلك يتطلب إصلاحات جذرية وشاملة تشمل النظام السياسي، إدارة الاقتصاد، ومعالجة القضايا الاجتماعية المزمنة. عودة سوريا إلى مسار التنمية تحتاج إلى إرادة شعبية ومؤسساتية تعيد بناء البلاد على أسس الحرية والعدالة والمساواة.

رغم ما مرت به سوريا من تحديات وأزمات خلال المئة عام الماضية، فإن تاريخها الغني وشعبها الصامد يبقيان مصدر إلهام لمستقبل أفضل. إذا تم استغلال الموارد البشرية والطبيعية بشكل مستدام، وتعزيز التفاهم الوطني، فإن سوريا تمتلك كل المقومات لتكون مثالا على النهوض من الرماد، واستعادة مكانتها كحضارة عريقة وشعلة أمل في المنطقة.

MBNwaiser@

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق